هو من رعيل من المطربين "الشعّار"؛ الأوائل في المنطقة الساحلية، ومن الجيل الذي كان محظوظاً؛ لأنه أدرك انتشار الكاسيت فحفظ نتاجه، خلافاً للجيل الذي اندثرت أعماله جراء غياب وسائط التوثيق، وإبراهيم صقر أيضا من الشعراء والملحنين والمغنين والعازفين الذي قدّم في الكثير في صنوف الزجل، التي تزيد على ال(16) نوعاً، لعلّ أشهرها: العتابا، والميجنا، والشروقي، والقرّادي، وغيرها الكثير.

درة في عقد شعّار الجيل الأول

ابراهيم صقر درّة في عقد الجيل الأول من الشعّار – المطربين: والتي نجد فيها إضافة له: فؤاد غازي، برهوم رزق، عادل خضور، درويش حمود، علي تفاحة، صالح رمضان، أحمد التلاوي، عقيل خضور.. وآخرين، والذين شكلوا مدرسة في الطرب الشعبي تتلمذت على يدها أجيال.

الباحث نبيل عجمية

لقد وضع صقر ورفاقه مداميك الأغنية الساحلية التي تستقي ينابيعها من ذلك الريف الممتد بين منطقة الغاب، وصولاً إلى جبال الساحل ثم سهوله وشواطئ المتوسط في طرطوس وجبلة واللاذقية.

في هذه المناخات من المواويل والعتابا والميجانا؛ شهدت قرية (حمّام القراحلة) الناعسة على سفحٍ جبل من جبال جبلة سنة(1938) ولادة إبراهيم صقر ابن عازف الرباب في القرية، والذي ستمنحه تصاريف القدر أن يكون شاهداً على انطلاق الأغنية الساحلية من فطريتها الأولى، لتجوب في زمننا هذا أصقاع الأرض مع نجوم غنوا على مسارح العالم من جنوبه إلى شماله.

صقر مع الفنان أيمن زيدان

إبداع صقر ابن بيئته

صقر أثناء تسجيل إحدى أغانيه

نمت ذائقة إبراهيم وأزهرت في هذه الجغرافيا الخضراء، بين سحر الطبيعة الآخاذ وبهاء وجوه أبناء الريف ونضارتها، فامتزجت أغاني المواسم مع أغاني الغزل، مستندة إلى تراث ريفي غنائي هائل ومعجمٍ ضخم في مخزونه البلاغي، فنفض التراب عن الكثير من الأغاني المنسية، وأطلقها في الآفاق باعثاً ومطوراً ومجدداً، وما مغناة شفتك يا جفلة إلا مثال على ذلك.

سيرة حياة صقر الأغنية الساحلية

يروي الباحث في التراث الشعبي نبيل عجمية بعضاً من سيرة إبراهيم صقر أو أبو عاطف وهو اللقب الذي اشتهر به على مدى الحفلات، منذ ولادته سنة 1938 في بيتٍ يعشقُ الشعرَ والغناء والعتابا، حيث كان والده شاعر القرية ومطربها، وعازف ربابة متمكناً أورث ابنه هذه الجينات، فتفتقت مواهبه منذ نعومة أظفاره، واتقن العزف على آلات المزمار والربابة والعود ويردف عجمية: "انتبه والد إبراهيم إلى الموهبة المتوقدة عند ابنه، فشجعه وأثنى عليه، وطالبه بأن يغني ويُفرح الناس بما منّ الله به عليه، لتشهد بعدها قريته الجميلة ولادة شاعرٍ ومطرب وعازف عود متمكن، خرج من رحم (حمام القراحلة) وذاع صيته في الآفاق، ولكنه ظل وفيا لها ويغني لأجلها بكلِّ المناسبات، فقال فيها:

(عيني محلا التطليعة

بكروم التحت الضيعة

بتسوى جنات النعيم

ودنيا الله الوسيعة).

وفي العنفوان والأنفة، حضرت (حمام القراحلة) أيضاً في شعره ولحنه وصوته.

ويروي لنا صقر على لسانه مرحلة الشباب من مسيرته والتي بدأ اسمه يطوي الآفاق فيقول: " أكبر الأثر في مسيرتي أن أصبح مطرباً في الإذاعة السورية حيث سجلت عددا كبيرا من الأغنيات، تجاوزت الخمسين أغنية منها: (من يوم غيابك عني يا سمرة) و(تسلملي العينين الكحلا).

ويضيف أبو عاطف "قدّمت طوال تلك السنوات جملةً من مواويل العتابا والميجانا، وباقةً من الأغاني المتنوعة).

صقر المساجلات ومرحلة الانتشار

في هذه الأثناء بدأ اسم أبو عاطف بالانتشار في أنحاء سورية كافة، فأقيمت له الحفلات العامة وسط نجاح يتلوه نجاح، مما دعا شعراء العتابا للدخول معه في مساجلات (محاورات شعرية)، فقد لفت صعوده القوي انتباههم، وبات لزاماً عليهم أن يجابهوا هذه القامة المفعمة بالفرح والغنية التي تنهل من مخزون التراث الغنائي الشعبي وتجدد فيه، وتبني تأليفاً جديداً دون أن تبتعد عنه، ومن هؤلاء الشعراء: درويش الحمود، وصالح رمضان، وسليمان دلا وهو من لبنان، وشادي ياسمين، فضلا عن لقاءات عدة جمعته مع الراحل فؤاد غازي.

وعن هذه المحاورات الشعرية يقول أبو عاطف: كانت كلها ارتجالية، وكل الحدّة التي ظهرت في ردود العتابا حقيقية، إلا أنها كانت تنتهي مع انتهاء السهرة، وكنا نتراضى ببيت عتابا أو بابتسامة صغيرة.

و فتحت أمامه دول العالم أبوابها لاسيما من الجاليات العربية هناك، حيث زار كل من: البرازيل وألمانيا وقبرص وأستراليا وتركيا، وأقام العديد من الحفلات الجميلة كما يصفها.

ويسخر أبو عاطف من سنين العمر، ويعتبرها أرقاماً لا قدرة لها على إيقاف عطاء الفنان، فرغم إبحاره اليوم في تسعينياته؛ لايزال يمتلك الرغبة والقدرة على تقديم المزيد، متسلحاً بصوته الجميل الذي لم تتعبه السنون.

ملك العتابا

صقر هو بحق ملك الزجل والعتابا السورية بلا منازع، وهذه بديهية لا ينكرها أحد، ففي رصيده مئات الأغاني، وآلاف المواويل من الزجل والعتابا، ورغم ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي وتنتجه شركات الإنتاج من أصوات وأغان رديئة، ظل الجمهور المحب للطرب وللأصالة وفيّاً لعتابا إبراهيم صقر وللميجنا التي ينوّع عليها بألف خاتمة وخاتمة، متحدياً غيابه عن مسرح الغناء جراء الفن الذي يروج له حاليا، فهو ما يزال قادرا على أداء الموال، بكل الحيوية وحرارة التلوين وجبروت الصوت وقوته.

تاريخ حافل وإبداع شمل كل مفاصل الأغنية

إبراهيم صقر لم يغن – إلا ما ندر- في كلِّ تاريخه الحافل بزرع البهجة والفرح من كلمات أحدٍ آخر، أو من ألحان آخرين، بل كان يؤلف ويلحن، ويُغني، ورابعة هذه الجماليات الإبداعية كان عازف عود من نوعٍ نادر ومختلف، وأبدع في عشق سوريا غناء وفرحاً وعتابا، معطياً الكثير من روحه للأغنية الساحلية المُفعمة بلون الأرض والزيتون والقمح، بهبات النسيم الغربي ومطره الناعم، فكان كالفنان التشكيلي في شغله الغنائي، وكالشاعر في تبني قيم الجمال وحملها معه إلى كل المحافل.

دعوة لجمع تراث صقر وأقرانه

لعل نشر هذه المادة اليوم مناسبة للدعوة لجمع هذا التراث الغنائي الثّر لإبراهيم صقر وعادل خضور وفؤاد غازي، وعشرات الأسماء من المطربين والزجالين وشعراء المحكية السورية لاسيما الغنائية منها.. لأن هذا التاريخ الغنائي ببساطة؛ يتهدده خطران، الأول سرقته ونسبه لآخرين، والثاني ضياعه، وفي المسألتين خسارة كبيرة لأحد ملامح سورية الجميلة، وهو الغناء السوري الذي يُعاني التقهقر والإهمال.