من شمال شرق سوية، حيث كانت الولادة سنة 1964، وبعدها كانت الرحلة ‏والاستقرار في ألمانيا، وما بين مناخات الولادة في الجزيرة السورية، ‏ومناخات الغرب الأوروبي؛ لرئيس الطّائفة الإنجيليّة في مدينة المالكيّة التّابعة ‏لمحافظة الحسكة لمدّةٍ اقتربت من ربع قرنٍ قبل أن تدفعه الحرب في بلاده ‏مكرهاً لهجرتها؛ كان ثمة مساحة عذبة وساحرة للقس جوزيف إيليا، لأن يكتب ‏الشِّعر العموديّ، وقصيدة التّفعيلة، وأناشيد للأطفال وقد صدرت له عدّة ‏دواوين في هذه المجالات منها: "أنا لغةٌ أخرى، أحبّكَ حتّى وإن إنّي هنا، ‏امرأةٌ من بنفسجٍ، نمضي ولا نمضي، وكذلك الجزء الأوّل من أعماله ‏الشِّعريّة.. حيث استطاع في المناخات أن يُحاول متلمساً ماهية الشعر الذي ‏يراه بعد تأملٍ طويلٍ وبعيد معادلاً للخلود:‏

وجودُ الشِّعر نفي للزّوالِ ‏

ورقصٌ فوق أرصفةِ الجمالِ

ضفائرُهُ على رأسِ المعاني

غطاءٌ ناعمٌ مِثْلُ الدّوالي

يصادقُنا ويأخذُنا لدنيا ‏

نطيرُ بها بأجنحةِ الخيالِ

الشاعر ايليا

فنحيا روحُنا أسمى وأحلى ‏

وألسنُنا مذهّبةُ المقالِ"‏.

صحيحٌ إنّ (الشاعر القس)؛ يتشارك مع الكثيرين في المشهد الشعري ‏السوري، سواء من حيث بنية القصيدة وشكلها – عمودي وتفعيلة – وربما ‏أيضاً، قد لا يبتعد عن شواغل هذه المشهد بالمضامين والشواغل، غير أنه ‏استطاع أن يخلق أسلوبه الخاص في اختيار لغته الشعرية، بهذه السهولة ‏والعذوبة التي تقترب كثيراً من الترانيم، وحتى التراتيل، لكنه كان الأميز ‏في مجالٍ شعري لا يزال يتقهقر بعد رحيل فارسه الأشهر الشاعر سليمان ‏العيسى (1921 - 2013) الذي كرّس أكثر من نصف سنوات عمره لشعر ‏الأطفال والطفولة، والذي أظنه كان من الأهم الذين سدوا ذلك الفراغ الكبير، ‏والمحنة أن الجهات الرسمية لم تنتبه بعد – ربما لأنه يُقيم خارج الحدود – ‏لأن تُدرج أناشيده في مناهج التعليم صفوف الرياض، والابتدائي، وحتى ‏الإعدادي، باعتباره يُخاطبُ في أشعاره هذه مختلف مراحل الطفولة من ‏الرياض وحتى اليفاعة..‏

‏"باحاتُها مدرستي ‏

تاقتْ إليها خطوتي ‏

تضمُّني أضمُّها ‏

فيا لفيضِ بهجتي ‏

‏ أحبُّها مدرستي".

تلك كانت أنشودةٌ بلسان تلميذٍ مجتهدٍ مع بداية عامٍ دراسيٍّ جديدٍ.. فقريباً من ‏دوافع الشاعر سليمان العيسى؛ بل على خُطاه – إلى حدٍّ بعيد- يتوجه هذا ‏الشاعر بخفة ومن دون جلبة أو ادعاء، ليُكمل ما انتهى إليه الشاعر الراحل ‏العيسى، حيث تتنوّع شواغل الأناشيد التي يؤلفها القس إيليا للأطفال، على ‏مختلف المراحل العمرية للطفولة.‏

‏"هيّا إلى الملعبْ ‏

رياضةً نلعبْ ‏

نقفزُ كالأرنبْ ‏

نركضُ لا نتعبْ ‏

لا شيءَ يَثنينا ‏

نتلو أغانينا"‏

يرى الشاعر إيليا في الشاعر الخالد سليمان العيسى؛ ظاهرةً فريدة في تاريخ ‏الشعر العربي فيما يتعلق بالصغار، فجميعنا نمت أزاهير طفولتنا على وقع ‏أنسام أناشيده البديعة، ويضيف: لا أظن أن أحداً ما، لم ينتعش بها.. أمّا كيف ‏استطاع الشاعر التخلص من لغة القصص التي كانت على لسان الحيوانات ‏وغيرها إلى لغة حيّة – الآن وهنا– وما هي بواعثه في ذلك؛ فيُجيب: إنّ ‏الحكاية مهمة جداً لإمتاع الطفل وتخصيب خياله، ولا ينبغي إغفالها أو ‏إهمالها، ولكن لا بد من البحث إلى جانب الحكاية عن أساليب أخرى، ومحاولة ‏تحبيب الطفل بلغته الإنسانية ليدرك كينونته كإنسان، ويُميز نفسه عن الكائنات ‏الأخرى؛ لهذا سعيت وأسعى لبناء أنشودة للطفل توسع عنده هذا الإدراك ‏بلغته هو، وليس بلغة قطة أو كلب أو عصفور..‏

فذهنية طفل اليوم لا يمكن مقارنتها مع طفل الأمس، وهذا واضح من لغة هذا ‏الشاعر التي اختارها بسيطة، ويعرف لمن يتوجه بها، ولمرحلته العمرية، ‏ومن ملامحها أيضاً احترامه لذهنية طفل اليوم، التي هي ندية و"ندّيّة" إلى حدٍّ ‏كبير، ومع أنّ شاعرنا رجل دين، وفي بعض جوانب شغله الإنساني يعمل ‏واعظاً، ومع ذلك لم تأت أناشيده وعظية، وأسأله: عن أدواته في "الموعظة" ‏من دون أن يُنفّر منه الطفل؛ فيُجيب: من خلال عملي الطويل في مجال ‏الوعظ؛ أدركت أنّ المتلقي ينفر من الوعظ الذي تغلب عليه المباشرة، والذي ‏يريد أن تصل كلمته؛ عليه أن يقولها بشكلٍ غير مباشر، فالإنسان بطبعه لا ‏يحب أن يعظه أحد، ولا سيما الطفل الذي قد يأتي الوعظ المباشر له بنتائج ‏عكسية، لذلك حاولت الابتعاد عن مثل هذا الوعظ بأن جعلت جميع الأناشيد ‏التي كتبتها للأطفال حتى الآن على لسانه هو، فلا أقول له: أفعل هذا ولا تفعل ‏ذاك، ولكن هو يقول مثلاً عن الحاسوب: ‏

‏"أتجنّب فيه المشبوها‏

كي لا في الظلمات أتوها"‏

من سمات الشعر الذي يكتبه إيليا للأطفال أيضاً، هو تركيزه على خطاب ‏الـ"نحن" في أكثر الأناشيد، ومثل هذه الـ"نحن" أنها محت المسافة بين الشاعر ‏والطفل، وحتى بينه وبين النص، كما تخلق حميمية الجماعة والحب للجميع ‏كما عنون أحد أناشيده، ولسهولة تلقيها يختار الشاعر الألفاظ والمفردات ‏المتناولة، تلك الكلمات التي تُخبّئُ مخزوناً جميلاً من الدفء.. ساعده في ذلك ‏إيقاع هذه الأناشيد وأوزانها الخفيفة، التي تُساعد في حفظها وإدراكها، وتقنية ‏تكرار اللازمات لإعطاء موسيقا وجمالية وتأكيد أهداف مُعينة، كما أنّ ‏مواضيع الأناشيد هي من مُحيط الطفل، مُبتعداً ما أمكن عن الميتافيزيقيا.‏

أما عن أشعاره للكبار، فنقرأ في شهادة الناقد سعيد محتال من المغرب عن ‏قصيدته "هكذا أصبحُ شاعرًا" حيث يقول: ذكر القس جوزيف أيليا في أحد ‏حواراته أنه "يسعى في نتاجه الأدبي الى خلق عالمٍ من الجمال في ظل القبح ‏والحروب التي دمّرت كلَّ شيءٍ خاصة في بلاده".. ذلك هو قلب الشاعر ‏جوزيف إيليا، لحظة شعرية بدأت بكلمة "أحب". لتغوص بنا إلى عوالم حيث ‏التجديد والجمال، عالم شعري مليء بالحقول والزهور والرّوابي، لتنقلنا إلى ‏ملاذ العاشقين الهاربين من هموم الحياة، وهذا ما هدانا إلى مرافقة الشاعر في ‏رحلته لنكتشف كيف يُمكن للحب أن يحوّل إنساناً إلى شاعر.. أن تكون شاعراً ‏عليك أن تحب الخير وتحب الناس، وتحثهم إلى التخلص من كلِّ ماضٍ مؤلم، ‏وأن تُركّز على الحاضر والمستقبل، وذلك من خلال سلك درب القائلين: ‌‏"وداعاً لأرضِ الخسائر".. ‏

هذه النظرة التفاؤلية تعكس رغبة الشاعر في حياة آمنة بعيدة عن مآسي ‏الحروف والفتن، التي سادت المنطقة العربية.. حياة هادئة بكلِّ بساطتها، ‏كبساطة مفردات هذه القصيدة عذبة الإيقاع، ذات التأثير العميق في النفس ‏البشرية.. لغة كلها شاعرية رقيقة لتُعبّر عن مشاعر صادقة وأهداف نبيلة.‏

والشيء الجميل – يُضيف الناقد المغربي- في النص أنَّ كلّ العبارات توحي ‏لك بوجود أملٍ، وأنَّ هناك حياة أفضل تنتظرك، وهذا نابعٌ من قوة مشاعر ‏الشاعر وعزيمته القوية لتجاوز كلِّ الصعاب المحاطة بأرض الخسائر دون أن ‏ننسى التناغم الصوتي الذي ساهم في خلق إيقاعٍ موسيقي داخلي، جعله أكثر ‏جاذبية للمتلقي.‏

هكذا أصبح شاعرنا شاعراً من خلال رؤيته التفاؤلية للحبِّ والحياة، تجلت في ‏مقاطع قصيرة ومتكررة، أعطت للنص إيقاعاً سريعاً ومتسارعاً، تعكس حالة ‏الانطلاق القوية التي افتتح بها النص. معتمداً على أسلوب انفعالي عاطفي، ‏وشاعرية رقيقة، وبناء فني متقن، حيث ألفاظه كلّها تدلُّ على الحسن والجمال، ‏وحبِّ الشاعر للحياة.. مشاعر أحدثت تحولاً عميقاً في نفسية الشاعر. وثمة ‏تلاحم قوي بين مكونات النص الشعري، جعلت منه نموذجاً يمكن السير على ‏خطا الشاعر، والاستفادة من تجربته الكبيرة في نسجه لشكلٍ شعري متطور ‏يُساير العصر، حيث يضعك أمام تصور جلي لوظيفة الشاعر في هذه الحياة. ‏

أما عن قصيدته "الفكرة الهاربة"؛ فتقول الشّاعرة ليلاس زرزور: إنها تُعبّر ‏عن تجربة عميقة تتعلق بالشوق، والتحقق الملتبس، وتداخل العاطفة مع خيبة ‏الأمل. يُقدّم الشاعر خلالها حالة تشتت وضياع ضمن حبٍّ يتوق إليه، ولكنه ‏غير ملموس، يظهر ويختفي، ما يتركه في حالةٍ من الجذب والتوتر.. ‏القصيدة مكتوبة بوزن الشطرين، ما يعزز البنية الكلاسيكية والتقليدية التي ‏تعكس صدى شعري عربي يتسم بالعمق العاطفي والتأمل الفلسفي. كما أنّ ‏القصيدة تتناول علاقة الشاعر بفكرة أو حلم يلاحقه؛ إذ يُعبّر عن هذا الحلم أو ‏الفكرة كمحبوبة، ويبرز حبّه وتعلقه بها على الرغم من خيبات الأمل التي ‏تلاحقه.‏

‏"وتأتي ولا تأتي وإنّي على وهمي‏

‏ أظلُّ أُسلّي النّفْسَ والنّفْسُ في سُقْمِ ‏

أقولُ: لقد جاءت وأُمسِكُ كفَّها"‏

ورغم كلّ الخيبات، يعترفُ الشاعرُ بعدم استطاعته التخلي عن هذه الفكرة، ‏فهي تعطي لحياته معنىً وغاية، وأي حياةٍ خالية منها ستكون بلا طعم، ما يدل ‏على احتياجه العميق لها.‏

‏"لهذا سأبقى طالبًا فكرةً نأَتْ ‏

فلا بدَّ أنْ تأتيْ وأرجِعَ للنّظْمِ"‏

يختتم الشاعر بتأكيد استمراره في السعي وراء فكرته رغم ابتعادها، فهو ‏متمسك بالأمل بأن تتحقق يوماً ما، ما يعكس إصراره وعدم استسلامه.‏

أما اللغة المستخدمة في القصيدة – فتضيف زرزور- فتتسم بالبلاغة ‏والرمزية، ويظهر فيها استخدام الشاعر للغة قوية تُعبّر عن مشاعره ببساطة. ‏كما أنها تحتفظ بأصالة الكلاسيكية الشعرية من حيث الأسلوب والمفردات، ‏وتترك مساحة واسعة للقارئ ليتأمل مشاعره الخاصة ويتفاعل مع التوترات ‏التي يثيرها النص.‏

القصيدة كذلك تحمل رمزية تتجاوز العلاقة العاطفية السطحية، حيث يمكن ‏اعتبار "الفكرة الهاربة" رمزاً لمعاناة أعمق مرتبطة بالوجود والمعنى، وربما ‏بالأحلام والأماني التي يبنيها الإنسان، لكنها تبقى بعيدة المنال. هذه الفكرة ‏الهاربة، على الرغم من أنها لا تتحقق، لكنها تظلُّ تجسدُ الشوقَ الذي يحرّك الإنسان نحو ‏أهدافه، حتى وإن كانت غير قابلة للتحقيق. فكأن الشاعر هنا يُعبّر عن العلاقة ‏الجدلية بين الإنسان وطموحاته وأحلامه التي لا تتحقق، لكنه يظل متشبثًا بها، ‏كما يقول "سأبقى طالباً فكرةً نأَتْ"، معبراً عن أمل لا ينضب.‏

وأخيراً أختم بهذا النص السوري للعظم للشاعرحيث يقول:‏

‏"أنا سوريُّ ‏

حُرٌّ حيُّ ‏

أنشدُ دوماً: ‏

أنا سوريُّ ‏

صخرُ بلادي ‏

صوتٌ شادي ‏

ظلَّ ينادي: ‏

أنا سوريُّ ‏