لا تزال القهوة المرة لدى أبناء الجولان عامرة وحاضرة في طقوس الفرح والحزن المتوارثة على الرغم من ظهور العديد من أنواع الشراب المختلفة في وقتنا الحاضر فأبناء الجولان يحتفظون بمستلزمات اعداد القهوة المرة، في بيوتهم ومضافاتهم أينما سكنوا وماتزال انيسة الجلسات والسهرات كما باتت ترمز الى مكانة صاحب الدار وأهميته الاجتماعية.
القهوة المرة تجمع معاني الاحترام والجود والتسامح والمحبة
القهوة المرة عند العرب حسب لها معاني سامية من الاحترام والتقدير والجود وحسن الضيافة والتسامح والمحبة والاخاء ، يتحدث أبو عمر شبول لمدونة وطن عن دلالات ومعاني طرق تقديمها وتناولها لدى أهل الجولان قائلا
وهناك عادة متوارثة أصيلة تتناقل بين العشائر والعائلات الجولانية حيث يقوم صاحب "المضافة "المعزب" او الساقي" بشرب الفنجان الأول على مرأى من الحاضرين، في تأكيد على سلامة القهوة ونظافتها، ثم يصب الفنجان الأول للضيف، ثم يبدأ بالحاضرين من اليمين دون تمييز كما وهناك مثل شعبي في ذلك يقول "على اليمين لو كان ابو زيد على اليسار" على أن لا تتجاوز الكمية المصبوبة في الفنجان بضعة نقاط. ويضيف : في حال امتنع الضيف أو الزائر عن تناول القهوة فمعنى ذلك أن له حاجة ولا يشربها إلا إذا أخذ وعداً بقضاء حاجته ، أما الامتناع عن شرب القهوة بلا سبب فهذا نذير شر»، وتستخدم القهوة حسب قول الشبول للدخيل الذي يحتمي بصاحب البيت أو الشيخ بان يمتنع عن الشرب حتى تلبي حاجته ، فما يكون لصاحب الدار الا ان يقول لها اشرب قهوتك يا الضيف حاجتك ملبية باذن الله، واشار الشبول أن هذه العادات حميدة تبعث الطمأنينة بين الشرائح الاجتماعية ان هناك امان وخلق رفيع عند العرب لا يمكن العبث بها، كما تستخدم لعقاب المجرمين والمسيئين أو الشاذين والخارجين عن فضائل القبيلة، أو المقصرين بحقها، وذلك بحرمانهم من ارتياد المضافة، أو الديوان.
القهوة المرة مرتبطة بطقوس تحضير القهوة و تقديمها
الباحث المتخصص بالتراث محمد الفياض أكد ان طبيعة الجولان السوري تختلف عن طبيعة المحافظات الأخرى، اذ تتمتع هذه البقعة الجغرافية المهمة بسمات متعددة جعلت منها بيئة خصبة لأنماط تراثية صبغت عادات تسيجها الاجتماعي المتنوع والذ ي يحرص أبنائه المحافظة على هذه العادات والتقاليد خاصة في مجال الضيافة والكرم ويتابع حديثه: الجولانيون واهل بلاد الشام عموماً اشتهروا بضافة القهوة المرة التي تحتل لديهم منزلة رفيعة وهي دليل كرم الضيافة وهناك عادات مرتبطة بها مثل تحضير القهوة وطريقة تقديمها الى الضيوف وهذا له طقوس يجعل هذه العادات راسخة في الاصالة والتراث.
ويتحدث محمد سعد ابو معتز ويسكن في الحسينية عن بعض الطقوس او الافعال المترافقة مع ضيافة القهوة المرة فكسر الفنجان من قبل المضيف عند العرب تدل على علو مقام الشارب وعلو رفعته فهذا الفنجان لا يمكن لأي مخلوق ان يشرب منه بعد هذا الضيف.
ويشير ابو معتز سعد الى وجود آداب لشـــــرب القهوة في مضافات العرب وتتوزع هذه الآداب والواجبات بين الساقي والشارب ،فمن حيث واجبات الساقي اذ عليه أن يشرب الفنجان الأول قبل تقديم القهوة للزائرين ، أو الضيوف وعلى مرأى منهم لغايتين أولهما يتذوق القهوة فان وجد ما يعيبها أعرض عن تقديمها، ثانيهما ليطمئن الأخرون الى سلامتها
كما من واجبات الساقي حسب قول سعد ان يصب الفنجان باليد اليمنى، ويستلمه الشارب باليمنى بعد نقرة على حافته بالمصب تنبيها للشارب لأخذ الفنجان ويكرر الساقي صب فناجين القهوة للشارب ثلاث مرات وعلى الشارب أن يهز الفنجان وان لم يعلن ذلك يكون اما جهلا أو تحديا للساقي و اذا كسر الفنجان بعد شربه من أحدهم اعتبر هذا مديحا وتحببا من الساقي.
وللشارب واجبات أيضا كما يوضح الباحث الفياض: منها الاعتدال في جلسته عند تقديم الفنجان وعدم اعلان رأيه بالقهوة حين شربها مدحا أو ذما، حيث ان دلق الفنجان قبل شربه عمدا يعتبر اهانة للساقي وتجيز له رد الفعل فورا وهناك عادة يعرفها الجميع هو هز الفنجان اشارة لاكتفاء الشارب ويردف بقوله قهوة دايمة.
الخبرة والخميرة والماء العذب
ولصوت المهباج للمتذوقين ايقاع خاص عند العم ابو خالد الفشتكي من ابناء الجولان يقطن في قدسيا يقول: اذهب كل يوم الى بيت جاري لاسمع ايقاع المهباج المتأصل بالتراث والبداوة ، لافتاً الى أن هناك أجواء خاصة تفرضها القهوة في الدار والمحيط الاجتماعي فهي من أساسيات المضافات في الجولان ، التي مازالت مستمرةً حتى وقتنا الراهن.
ويتابع حديثه: ترتبط القهوة الجيدة بمذاق مميز، وهذا يدل على الخبرة والخميرة المحمصة جيدا وماؤها العذب والنظيف، وقد تتوقف جودة القهوة المرة على جودة الماء قبل كل شيء، ومن ادواتها وجود حبوب الهيل وجودته قبل كل شيء وهناك بين العرب ما يتداوله عن وجود القهوة الصايدة التي يوجد عيب فيها وهو ما يعيب صاحب الدار ويقلل من قيمته يقول الفشتكي في ذلك
يا ريحة الهيل فوحي
و ردي ريحة داراً راحت
فنجان قهوه و إبتسامه و سعة بال
تلقى الصباح يروق لو كنت ضايق
لا تقول مالي خلق و تـكدر الحال
وحاول تعيش من التفـاؤل دقايق
مضافات عامرة بالقهوة المرة
ويعتبر الحاج نصر مريود ابو مهند من جباتا الخشب بالقنيطرة أن المضافة الجولانية جسد بلا روح دون وجود القهوة المرة سيما أن المضافات هي اليوم ظاهرة فريدة في المجتمع الجولاني وموروث اجتماعي أصيل وعريق، ففيها تنعقد الجلسات وترفع الرايات وتحل العقد والمشاكل ، حيث أن مضافته الواقعة على محاذاة قريته في جباتا الخشب تحمل سجلاً وإرثاً قديماً بالسنوات الماضية، فمجلسه حسب قوله عامر بالمحبين ولا يكاد يخلو من الزوار القادمين من المناطق البعيدة، ويمكن استقبالهم في الساعات المتأخرة من الليل فأصبحت المضافات المعمرة بالقهوة المرة محط استقبال وتعارف وتثقيف، بل مناخاً هاما لغرس القيم والأفكار، والمثل العليا، من أصحاب البيت ،لنشر القيم الحميدة من الكرم والجود واغاثة الملهوف ، والتي تعطي صورة "عن المعزبين" أي أهل الديار، فيتم صياغة السلوك الاجتماعي القويم وينتقد الذميم، وتدار فناجين القهوة المرة العربية، ويتبادل الناس أمور حياتهم