أفاد منه المجمع العلمي العربي مفكراً عربياً بارزاً له وزنه، كما استفاد هو من المجمع فركز معلوماته تركيزاً جعله في مصاف العلماء، أراد المجمع تكريمه، فرشحه لنيل الجائزة التقديرية للعلوم الاجتماعية في عام 1960، كرمته وزارة التعليم العالي وكلية التربية بإطلاق اسمه على إحدى القاعات، كما كرمه مجلس محافظة مدينة "دمشق"- بناء على اقتراح مجمع اللغة العربيةـ بإطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة، وأطلقت وزارة التربية اسمه على إحدى ثانويات "دمشق".
إنه "جميل بن حبيب الخوري داود صليبا" المولود في 7 شباط من عام 1902 في قرية "القرعون" من قضاء البقاع الغربي من محافظة البقاع، وكان والده يعمل متعهداً ومعمارياً، وانتقل إلى "دمشق" مع أسرته للعمل في شق طريق "دمشق- درعا"، التحق بمدرسة "الآسية" ومن ثم بالمكتب السلطاني العثماني وتابع في عام 1918 دراسته في "مكتب عنبر" وحصل على شهادة الدراسة الثانوية منه عام 1921.
اللغة العربية من أغنى اللغات وأوسعها اشتقاقاً وأدقها تعبيراً، صقلتها القرائح والعقول في الماضي بضعة عشر قرناً، حتى جعلتها لغة الشعر والخطابة واصطنعها العلماء في مفردات الطب والكيمياء والرياضيات والفلسفة حتى جعلوها لغة العلم والثقافة
أوفدته وزارة المعارف السورية إلى باريس لمتابعة تحصيله العلمي، ودخل "صليبا" في فرع الفلسفة من كلية الآداب في جامعة السوربون، وبالإضافة إلى تمكنه وإتقانه للفرنسية حصل على دبلوم التربية من معهد علم النفس في عام 1923، وعلى درجة الإجازة في الآداب فرع الفلسفة في عام 1924، وعلى درجة الإجازة في الحقوق في عام 1926، وقدم إلى جامعة باريس أطروحة الدكتوراه عام 1926 وكانت بعنوان: "دراسة في ميتافيزيقية ابن سينا"، وفي عام 1927 قدم أطروحته المكملة بعنوان: "نظرية المعرفة على مذهب المدرسة الاجتماعية الفرنسية"، ومنحته جامعة السوربون درجة الدكتوراه في الآداب قسم الفلسفة، وكان أول عربي سوري يحمل هذه الشهادة في العلوم الإنسانية.
بدأ حياته العملية بعد عودته من فرنسا عام 1927 إذ عمل مدرساً وبعدها رئيساً للتعليم الثانوي، انتقل إلى جامعة "دمشق"، وشغل منصب عميد هذه الكلية من عام 1950 إلى 1964 م وندب محاضراً في المركز الإقليمي لليونسكو في بيروت لتدريب كبار موظفي التربية في العالم العربي من عام 1964 إلى عام 1970م، انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية "بدمشق"، وكذلك عضواً في اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية اليونسكو، شارك في مهرجانات وندوات دولية كثيرة في "بيروت والقاهرة وبغداد والكويت وباريس"، توفي في بيروت في 12/10/1976م وشيع جثمانه إلى مثواه الأخير في "دمشق".
رحلة في أعمال "جميل صليبا":
وفي كتابه من "الخيال إلى الحقيقة" الذي يقع في 182 صفحة يقول "صليبا" في فصل الإبداع والاتباع: «إن أسباب قلق الشبان كثيرة، وأهمها في نظرنا خلو أذهانهم من قصور المثل العليا وعدم اتصافهم بتفكير شخص حر يتجردون به من اتباع الآثار القديمة من جهة، ومن تقليد الحضارة الغربية تقليداً أعمى من جهة أخرى، ولو أبدعوا لأنفسهم صورة جديدة تعبر عن أصالتهم الذاتية لكانت هذه الصورة خير كاشف عما يرغبون به من قديمهم أو يحتاجون إليه من جديد غيرهم.. اللهم في ذلك كله تحقيق التوازن بين القديم والحديث لا للخروج من الركود المزمن فحسب بل لدفع عجلة التقدم إلى الإمام في نظام وثقة واطمئنان..».
ويرى د. "صليبا" في فصل مصير الحضارة: «تلوثت الحضارة بأوراق المادة حتى أصبح كل شيء فيها آلياً، وطغت هذه الآلية على العلم والفن والأخلاق حتى جاء "هنري برجسون" فثار على الآلية المادية ودعا إلى ما في الكون من حياة فياضة مبدعة، إلى ما في النفس من تغير فعال خالق، فقلب التطور الآلي إلى تطور مبدع، وجرد الحياة من حجاب المادة والنفس من قيود الجسد».
وفي كتاب المعجم الفلسفي يبدع "جميل صليبا" في وصف اللغة العربية ويتغنى بجمالها ودقتها حيث يقول: «اللغة العربية من أغنى اللغات وأوسعها اشتقاقاً وأدقها تعبيراً، صقلتها القرائح والعقول في الماضي بضعة عشر قرناً، حتى جعلتها لغة الشعر والخطابة واصطنعها العلماء في مفردات الطب والكيمياء والرياضيات والفلسفة حتى جعلوها لغة العلم والثقافة».
ويستفيض "صليبا" في شرح أسباب اتساع اللغة العربية لجميع الاصطلاحات العلمية بقوله: «إن اللغة العربية كثيرة المرونة لطيفة المخارج فيها ألفاظ متباينة ومتفقة ومترادفة ومشتقة، وربما وجدت فيها أيضاً ألفاظاً مختلفة دالة على معان متقاربة وإن كانت أشخاص تلك المعاني متقاربة، وربما دلت على أحوال مختلفة، ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد، إلا أن هذه المرونة في دلالة الألفاظ على فائدتها، لا تخلو في بعض الأحيان من الالتباس والإشكال، لأن الأصل في الكلام اختلاف الألفاظ باختلاف المعاني، ومن حق المعنى كما قال الجاحظ: أن يكون الاسم له طبقاً، وألا يكون له فاضلاً ولا مفضولاً ولا مقصراً ولا مشتركاً ولا مضمناً».
شارك الدكتور "جميل صليبا" في إصدار العديد من المجلات والكتابة فيها، ومنها مجلة المعلمين والمعلمات، مجلة الثقافة، ومجلة التربية والتعليم، ومجلة الطليعة، ومجلة كلية التربية، ومجلة المعلم العربي، ومجلة الحديث الحلبية، ومجلة الطريق البيروتية، ومجلة العربي الكويتية، والإنسانية الدمشقية، ومجلة النعمة الأرثوذكسية الدمشقية، ومجلة المجمع العلمي العربي.
من الجدير بالذكر أن الكمية الكبيرة من الكتب التي ألفها وترجمـها والمحاضـرات التي ألقاهـا، والمناصب التي استلمها والرسائل الجامعية التي أشرف عليها، والتي كانت وراء شهرته كمفكر قومي مخلص، دفعت مجمع اللغة العربية "بدمشق" لانتخابه عضواً عاملاً فيه عام 1942، وإلى انتخابه في 24/11/1943 عضـواً في لجـنته الإداريـة وحتى تقديمه لاستقالته عام 1964.
أقامت له جامعة "دمشق" حفلاً تأبينياً بتاريخ 20/12/1976م، شارك فيه مجموعة من العلماء والمفكرين منهم: د. "محمد الفاضل"، د. "قسطنطين زريق"، د. "إبراهيم مدكور"، "حافظ الجمالي"، د. "كامل العياد"، د."فاخر العاقل"، "حبيب صليبا".
المراجع:
1- "جميل صليبا" للأستاذ "الياس انطون نصر الله".
2 - قراءة في معجم الدكتور "صليبا" للأديبة "مهاة فرح الخوري" في جريدة الثورة السورية بتاريخ 5/9/1974.
3- المفكر العربي جميل صليبا "لعيسى فتوح" مجلة المعرفة 225 ـ 226 لعام 1980.
4- من الخيال إلى الحقيقة / جميل صليبا: القاهرة - دار الفكر العربي.
5- المعجم الفلسفي /جميل صليبا/ دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة.