في صحيفة "الجماهير" الحلبية وجدت صورته مع مجموعة في معرض التعريف بدار السعادة للمسنين، وبمناسبة اليوم العالمي للمسنين.
في البداية لم أصدق أنه هو، لكنني حين قرأت الاستطلاع عن "دار السعادة" وجدت اسمه بين الحاضرين.
فيا موت زُر إنّ الحياة دميمة/ ويا نفس جدّي إن دهرك هازلُ
رجل عملاق وعالم جليل، كتب في علم النفس ودرّس فيه، وشارك في ندوات عالمية عنه طوال أربعين عاماً. كنّا نقرأ له في (مجلة العربي) و(بناة الأجيال) وسواهما منذ عقود.
ونظراً لما تتمتع به مقالاته ودراساته وكتبه من حصافة وعلم واتزان على مدى أعوام كثيرة، كنت أحسبه يعيش في قصر منيف ومن حوله يطوف المساعدون ليقوموا بخدمته، لكنني فوجئت به مقيماً في (دار السعادة) بعيداً عن أولاده وبعيداً عن الأضواء.
وفوجئت أكثر عندما وجدته راضياً مطمئناً لما هو فيه، وتسعده بعض الزيارات القليلة التي تعيد إليه نضارة الحياة.
حين عرف esyria مكان إقامته سعى للاتصال به ثم حث الخطا للقائه يوم السبت "4/10/2008" في "دار السعادة" وكان هذا الحوار:
*د.فاخر عاقل، هل تحدثنا عن سيرتك الذاتية؟
**ولدت عام/1918/ في بلدة صغيرة في شمال غرب "سورية" اسمها "كفر تخاريم"، كانت تابعة لمدينة "حلب"، آنذاك، وهي تابعة لمحافظة "ادلب" الآن. كان أبي موظفاً، تنقّل بين أقضية "حلب" فتلقيت تعليمي الابتدائي في "مدينة الباب" ثم انتقلت إلى "حلب" ودخلت "مدرسة الروم الكاثوليك" وبقيت فيها طالباً داخلياً مدة سنتين ثم تركتها إلى "مدرسة التجهيز" (المأمون) وبقيت فيها ست سنوات نلت فيها البكالوريا (الثانوية العامة) ثم ذهبت إلى "دمشق" لدراسة الطب، لكنني أوفدت حينذاك إلى "الجامعة الأميركية" في "بيروت" فدرست التربية وعلم النفس ونلت منها شهادتي البكالوريوس والماجستير في التربية وعلم النفس.
عُيّنت بعدها أستاذاً في "دار المعلمين" بـ "دمشق". ثم أوفدت إلى "لندن" لتحضير شهادة الدكتوراه.. وبقيت هناك ثلاث سنوات نلت على إثرها شهادة الدكتوراه وعدت أستاذاً مساعداً في "جامعة دمشق" ورئيساً لقسم علم النفس. أثناء عملي بجامعة "دمشق" عملت مع "اليونسكو" مدة سبع سنوات متفرقة، في "مصر" وفي" الأردن" وفي السعودية.
في "الأردن" شاركت في إنشاء "الجامعة الأردنية" وعلّمت فيها مدة ثلاث سنوات، عدت بعدها إلى "جامعة دمشق" وبقيت فيها حتى عام/1983/ وطلبت إحالتي على التقاعد.
مؤلّفاته: سبعة وعشرون مؤلفاً بالإنكليزية والعربية وثلاثة كتب مترجمة.
معظم كتبه مطبوعة أكثر من مرة، من هذه الكتب المؤلفة التي وجدتها في مكتبتي والصادرة عن دار العلم للملايين وحدها: علم النفس التربوي- أصول علم النفس وتطبيقاته- مدارس علم النفس – اعرف نفسك- معالم التربية- التعلّم ونظرياته- التربية قديمها وحديثها- الإبداع وتربيته.
*هل تذكر لنا مؤلفاتك؟
**عندي سبعة وعشرون كتاباً، ومن بينها معجمان بالإنكليزية والفرنسية والعربية، أقدّم فيهما المصطلح ومقابله ثم أشرحه. طلبت مني جامعة "دمشق" أن أضع معجماً بالعربية والإنكليزية ثم بالإنكليزية والعربية. فاشتغلت في المعجم سنوات سبع وجاء أقرب إلى موسوعة منه إلى مؤلّف. كتبت عشرات المقالات بالمجلات والصحف، من أهمها "مجلة العربي".
*هل تحدثنا عن الوضع الأسري؟
**لي ثلاثة أولاد: كبراهم "هدى" وهي الآن أستاذة في "جامعة ميشغن"، ترأس مؤسسة للعلوم النفسية، ولها مخبر يحضر إليه حملة الدكتوراه من أنحاء العالم للتخصص، وفي هذه اللحظة يبحث في مرض الاكتئاب.
لي ابن طبيب للأمراض الصدرية ومنها انتقل إلى مرض الإيدز في "لوس أنجلس" وقد أصبح خبيراً عالمياً في هذا المرض.
ابنتي الثالثة طبيبة نفسية في "واشنطن" تعمل في الحكومة الأمريكية واختصاصها هو الشيزوفرينيا (الانفصام) أيضاً عندها مخبرها الخاص وهي تحاضر وتكتب، هذا عن أولادي.
التربية مهمة الوالدين
*وزوجتك؟
**زوجتي كانت متعلّمة ساعدتني مساعدة كبيرة في شيئين: أولاً في تربية أولادنا، ثانياً في عملي العلمي. وهنا أحب أن أقول شيئاً للشباب المتزوجين حديثاً: تربية الأولاد لا تقتصر على المدرسة، تربية الأولاد يجب أن تبدأ وتستمر في البيت من قبل الأبوين. وقد عملت أنا وزوجتي –رحمها الله- على تعليم أولادنا وإكمال كل ما ينقصهم في المدرسة. ولذلك فهم اليوم جميعاً يحتلّون مراكز جيدة ويحملون شهادات عالية.
وأعتقد أنّ من أهم الأسباب أنني أنا وأمهم عملنا بجد ونشاط، طوال وجودهم معنا، على تقديم العون لهم، لكنها تركتنا حيث توفيت منذ سنة (1999).
*من الذي تذكره من أساتذتك، ومن المميز من طلابك؟
**من أهم أساتذتي "قسطنطين زريق" في "الجامعة الأميركية" في "بيروت". وأهم طلاّبي هو "د. ناظم طحان"، درّسته في الإجازة والماجستير والدكتوراه. أشرفت على تربيته وأعتقد أنه متميز. في "دمشق" هناك "أنطوان حمصي" أيضاً ساعدت على تكوينه العلمي. التلاميذ ليس عشرات ولا مئات.. ألوف التلاميذ.
*"د.فاخر عاقل" نود أن نسألك عن آخر الانجازات العلمية التي أنجزتها، آخر الكتب؟
**آخر كتاب كتبته عن الشيخوخة وهو لم يطبع حتى الآن، وينتظر الطبع. وآخر الكتب كان عن الإبداع، وقد نفد.
*ما أهم الكتب التي ألفتها، وما أقربها إلى نفسك؟
**أهم كتبي في رأيي هو معجم العلوم النفسية، قضيت في تأليفه سبع سنوات، وأعتقد أنه لا مثيل له في البلاد العربية، والمؤسف أن الناشر بعد أن نشر الطبعة الأولى أغلق محله واشتغل بتجارة البناء.
*ألم تجرب إعادة طبعه في اتحاد الكتاب العرب أو وزارة الثقافة؟
**عرضته على وزارة الثقافة أما إذا كان هناك مؤسسة أخرى فأنا مستعد. قدمت نسخة منه للوزيرة السابقة السيدة "نجاح العطار"، أخذته ثم سكتت ولم تتصل بي وأنا لم أتصل بها.
كتبت في علم النفس والتربية، وفي رأيي أنني كتبت كتباً مطلوبة في الجامعات كعلم النفس العام، وعلم النفس التربوي، والتعلم، وأصول البحث العلمي، وما إلى ذلك. وكتبي بيعت في العالم العربي بأجمعه. ولكن الآن خفّ الطلب عليها. والآن يوجد أساتذة جدد كتبوا كتباً جديدة. أقرأ في علم النفس والتربية ومجلات الجمعيات التي أنا عضو فيها مثل جمعية علم النفس البريطانية وجمعية علم النفس الأمريكية. وقراءتي ضعيفة بسبب آلام عيني.
علم النفس يحتاج إلى مختبرات.... ونظام الجامعة يحتاج إلى تحديث...
*بعد الخبرة الطويلة في الجامعة، كيف تقيّم لنا "جامعة دمشق"، وضعها العلمي ومستواها العام، وهل تقدّم اقتراحات من أجل التجديد والتطوير؟
**باعتقادي أن الجامعات في "سورية " تحتاج إلى شيء مهم هو البحث العلمي. والبحث العلمي مع الأسف نودي به وبدأ تطبيقه، لكنه لم يتقدم التقدم المرجو، وبدون البحث العلمي لا يمكن أن يكون هناك تقدم علمي، من جهة أخرى، أعتقد أن واجب الجامعات والأساتذة الجامعيين أن يترجموا إلى العربية المصادر التي تظهر في البلاد المتقدمة.
*برأيك ما سبب هذا التأخر أو عدم مواكبة العصر في البحث العلمي والتطبيقات العملية لنتائج الأبحاث؟
**هناك أسباب كثيرة، منها مثلاً، سياسة الاستيعاب التي تسمح لكل طالب أن يدخل الجامعة دون أن يداوم.. دون أن يتصل بالأساتذة، دون أن يتصل بالمخابر..
هؤلاء الطلاب مع الأسف مستواهم العلمي محصور بالكتاب المقرر. ومعلوم في الجامعات المتقدمة لا يُكتفى بالكتاب المقرر وإنما الطالب يُطالب بأن يقرأ كتباً إضافية ليستطيع أن يتقدّم.
*هذا السبب، هل يعود إلى نظام الجامعة أم إلى الأساتذة؟
**هناك سياسة الاستيعاب في سورية، وهي سياسة تسمح لكل من أنهى التعليم الثانوي أن يدخل التعليم العالي، في نظري هذا خطأ، في البلاد المتقدمة الذين يدخلون التعليم العالي من خريجي التعليم الثانوي لا يتجاوزون عشرين بالمئة فقط، أما نحن فالباب مفتوح على مصراعيه ومع الأسف المستوى العلمي يهبط.
*ما رأيك إذن بالمجاميع العالية التي تُطلب من أجل بعض الاختصاصات في بعض الجامعات؟
**هذه مشكلة أخرى من مشكلات الجامعات السورية، أنا برأيي أن يُطلب إلى الطالب علامات معينة ليدخل اختصاصاً معينا هذا خاطئ، الصحيح أن الجامعة أو الكلية عندها مثلاً مئة مقعد شاغر تفتح باب الامتحان وتنتقي المئة الأوائل وتكتفي بهم، ثم من قال إن الطب يحتاج إلى ذكاء أكثر من الفلسفة مثلاً. كل الدراسات التي بين أيدينا تقول أن الفلاسفة يحتاجون إلى ذكاء أكثر من الأطباء.
*نتيجة خبرتكم الطويلة في تدريس علم النفس وفي الكتابة فيه، هل تجدون أن الدراسة العلمية حول علم النفس في "سورية" تطورت أم أنها تتأخر؟
**نحن بعيدون جداً عن علم النفس كما هو في البلاد المتقدمة، علم النفس في البلاد المتقدمة أصبح يتصل بعلم الفيزيولوجية والبيولوجية وعلم الأعصاب والتشريح وسواه. ونحن ما زلنا نكتفي بالتدريس البسيط للنظريات التي مر عليها زمن طويل.
*هذا ينقلنا إلى الحديث عن نظريات علم النفس ومدى تطبيقها العملي؟
**نظريات علم النفس في البلاد المتقدمة اليوم تجاوزت ما كان في القرن العشرين. في هذا القرن نظريات علم النفس – كما قلت- تستند إلى التجريب في المخابر، لذلك فعلم النفس اليوم هو جزء من العلوم الأساسية وليس علماً نظرياً. من المؤسف أنه في سورية كلها لا يوجد مخبر واحد لعلم النفس. وقد يخطر في ذهنك أن تسألني: لماذا لم تنشئ أنت هذا المخبر، لقد أنشأته وجلبنا الآلات من أمريكا ومن اليابان معاً وطلبت أن يكون هناك ورشة لتصليح هذه الآلات متى خربت بين أيدي التلاميذ فلم يُلبّ طلبي. وكانت النتيجة أن هذه الآلات وضعت في الخزائن وأقفل عليها.
*د. فاخر، بما أنك تقيم في (دار السعادة) بـ"حلب"، وأولادك في أمريكا، هل تحدثنا عن مصير مكتبتك؟
**كان عندي مكتبة فيها أربعة آلاف وخمسمئة كتاب في كل مناحي المعرفة، فيها كتب ثمينة جداً، مثلاً تصوّر كان عندي المجموعة الكاملة لمجلة الكاتب المصري لـ "طه حسين"، جئت للعميدة وقلت: أنا مستعد أن أهديكم مكتبتي على شرطين: أن تخصصوا لها غرفة خاصة وقيّم، فرفضوا، قالوا: لا غرفة خاصة ولا قيّم.. فقمت بإهدائها إلى "مكتبة الأسد" وأنا سعيد بذلك لأن "مكتبة الأسد" لا تعير الكتب خارج المكتبة وبالتالي فالكتب لن تُسرق ولن تُفقد.
*رغم كل المعوقات التي تجدها على الصعيد الإداري، ما هو سبب عودتك إلى "سورية" ولست مع أبنائك؟
**أنا شخصياً أحب "سورية" ولقيت فيها أحسن المعاملة، كُرّمت في كثير من المناسبات، وقمت بأشياء مفيدة جداً وأحمد الله على ذلك. لم أفكر في الذهاب إلى "أمريكا" والعيش فيها لكن أولادي في "أمريكا". كان بيني وبين زوجتي خلاف كانت تقول لي.. (هنا طلب الدكتور" فاخر عاقل" أن أوقف التسجيل وحدثني عما دار بينه وبين مسؤول كبير جداً حول اغتراب أولاده الثلاثة فهم يحتاجون إلى ثلاثة بيوت وثلاث عيادات وثلاث سيارات. وراتبه التقاعدي ثلاثة آلاف ليرة؟!!)
الحبّ أوّلاً...
*ثم عدنا إلى الحديث المعلن وسألته عن صلته بعلم النفس وما يقوله بعد تجربته الطويلة فقال:
**كانت صلتي به في عام/1936/ حين كنت طالباً ودامت صلتي مع علم النفس حتى ساعتي هذه فأنا لم أنقطع عن القراءة والكتابة والانتماء إلى الجمعيات والمحاضرات. لذلك فأنا أعتقد أنه بإمكاني بعد هذه الأعوام الستين أن أقول شيئاً توصلت إلى قناعة به.
في مطلع القرن العشرين كان هناك عالم نفس اسمه "ماكدوغل" وكان يؤمن بالغرائز ويقول إن للإنسان 14 غريزة ومقابل كل غريزة انفعال، وهناك عوائق أمام كل غريزة. لكنّ الدراسات الحديثة التي أجريت في علم النفس أثبتت أن الغرائز قاصرة على الحيوان. الغريزة التي تعرّف بأنها صناعة فكرية كاملة منذ الولادة لا توجد عند الإنسان وإنما توجد عند الحيوان، الإنسان عنده حاجات. عنده حاجة للشراب وحاجة للأكل وحاجة للجنس وسواه. هذه الحاجات تسبب له اندفاعاً.. حافزاً ومحاولات لإرضائه لذلك فالإنسان لا يتملّك الغرائز وإنما يتملّك الدوافع والحوافز، وأنا أفرّق بين الدوافع والحوافز. لأن الدوافع فيزيولوجية والحوافز نفسية. فالإنسان إذن في رأيي عنده هذه الدوافع وعنده هذه الحوافز وهي تدفعه إلى العمل.. تدفعه إلى السعي.. تدفعه إلى قضاء هذه الحاجات.
وبقناعتي وبعد كل هذا الوقت الطويل الذي أمضيته في خدمة علم النفس أنا أعتقد أن الحاجة الأولى والكبرى للإنسان ليست كما قال "فرويد" الحاجة الجنسية وإنما الحاجة إلى الحب.. الحاجة إلى المحبة.. حاجة الإنسان إلى أن يحب وأن يُحَب. وهذا ينسحب على كل أشكال المحبة وأنواعها: الأب والأم، الأولاد، الوطن..
هذا الحب حين يتخذ الشكل الجنسي التناسلي.. ينقلب إلى شيء مضر إذا لم ترافقه الأخلاق.. لذلك كان من واجب الأخلاق أن توجه الدافع الجنسي توجيهاً أخلاقياً..
الدافع إلى الحب هو الحافز الأول والأهم في الحياة.. أن تكون محبوباً من الآخرين.. لا يكفيك أن تكون غنياً أو صاحب نفوذ ولا يكفيك أن تكون سيداً لك رأي مسموع بل تريد أن تحب وأن تكون محبوباً.. ومحترماً.. الكل يسعى إلى أن يحب وإلى أن يحبه الناس ويحترموه.
*هل يمكن أن يصل الإنسان إلى مرحلة تنعدم فيها الحوافز؟
**ما دامت هناك حياة فلا بد أن يكون هناك حاجات.. أنت تجوع وتعطش ولذلك الحاجات والحوافز موجودة ما دمنا نعيش وهي لا تنعدم ما دمنا نعيش ويجب أن نوجه الدوافع نحو الخير والعطاء.
عن الموت والسعادة..
*في الملفات التي كنت أعدّها في "صحيفة الجماهير" بـ "حلب"، طرحت سؤالاً وشارك في الإجابة عليه بعض الباحثين، كلّ من وجهة نظره. اليوم أطرح السؤال عليكم: كيف لا يكون الموت مخيفاً؟
**المؤسف أن هذا السؤال وجّه لي أنا.. لأنني أعتقد أنني لا أمثل الأكثرية من الناس.. أنا لا أخاف الموت.. وأنا أريد الموت. طبعاً ليس هذا طبيعياً، ظروفي الحياتية أملت عليّ هذا الموقف. الإنسان العادي لا يريد الموت ولا يقدم عليه وإن كان يعلم أن الموت حق وأنه لا بد له من ملاقاته يوماً. طبعاً العلوم الطبية الحديثة تحاول أن تخفف من آلام الناس، لكنها عاجزة عن منعهم من الموت. كل ما فعلوه أنهم أطالوا عمر الإنسان لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على أمراض كالإيدز والسرطان والسكري وهكذا نجد أن قسماً كبيراً من الناس ولا سيما من ذوي الأعمار المتقدمة يعانون من هذه الأمراض ويتمنون الموت.
*لو فرضنا أن العلم تطور واستطاع أن يطيل متوسط عمر الإنسان حتى خمسمئة سنة، هل يستطيع الإنسان أن يتحمل هذه الخمسمئة سنة من الناحية النفسية؟
**في رأيي أنا: كلا... في رأيي أنا الذي بلغت التسعين من عمري أي أن حياتي أصبحت خلفي، وليست أمامي، لم يبق لي مطلب في الحياة.. كل ما أريده عانيته، وعلى هذا الأساس فأنا شخصياً لا أجد لزوماً لأن أعيش فترة أطول، فكيف إذا صار العيش خمسمئة عام. خمسمئة عام فترة طويلة جداً جداً ولم يحلم بها الإنسان حتى الآن.. إنهم يحلمون بالمئة عام ومن يزيد عن المئة عام يُعتبر شاذاً، ولذلك حين يستطيع الطب أن يقضي على الأمراض قضاء مبرماً حينذاك تصبح الحياة جيدة ومفيدة. أما وفي الدنيا ما فيها من أمراض كثيرة فإن الحياة لا تكون جيدة والتخلص من الأمراض هو الأمل الذي يأمله الإنسان.
*إذاً في سن متقدمة يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة انعدام الحافز؟
**القضية ليست قضية انهيار، تغيّر الحافز أصح.. طبعاً الإنسان يميل إلى الحياة ويميل إلى البقاء، ولكنّه يصل في بعض الأحيان إلى موقف يجد أن الحياة لم تعد ذات فائدة وقد قال "أبو العلاء المعري":
«فيا موت زُر إنّ الحياة دميمة/ ويا نفس جدّي إن دهرك هازلُ».
*إذن هل يتحول الحافز إلى رغبة في معرفة العالم الآخر أو ما بعد الموت؟
**طبعاً محاولة معرفة العالم الآخر قديمة قدم الإنسان، وما من شك في أن العالم الآخر سؤال كبير جداً أمام الإنسان: ما هو العالم الآخر؟ ما هي صفاته؟.. كيف نصل إليه؟.. كيف نصل إلى الجنة ولا نصل إلى جهنم؟.. سؤال كبير لدى الإنسان. من حسن الحظ أن الشخص المؤمن يقبل بما في الكتب المقدسة ويسلّم أمره إلى الله والله هو الذي يرحمه.
*أيضاً من ضمن الملفات الفكرية سؤال أرى من المناسب أن يجيب عنه عالم نفس له خبرة طويلة في الحياة: هل السعادة ممكنة؟
**في ظل هذه الظروف، كل ما يأتينا فهو خير:
«تعجبين من سقمي/ صحتي هي العجبُ»
عندما يتمكن الإنسان من تحقيق الانسجام الداخلي ويكون راضياً عن تعامله مع العالم الخارجي.. وكما قلت عندما يستطيع أن يحبّ وأن يكون محبوباً، حينذاك تكون السعادة ممكنة، ويكون قد عاش حقاً، وهنا أريد أن أؤكد على حقيقة مهمة هي أن الأمر نسبي فقد يُسعد شيء ما شخصاً لا يجد فيه آخر سعادة له.. وأنا قدمت جهدي وربيت أولادي.. وأعتقد أن الحياة منحتني ما أصبوا إليه وإن كنت أريد أن أحقق الأكثر لو أن الظروف ساعدتني أكثر.
*الدكتور "فاخر عاقل" عالم النفس الجليل، سعدنا بلقائك على مدى ساعتين لم تبخل علينا خلالهما بعلمك وتجاربك، وإذا كنا نأسف لأن طعامك قد برد وهو ينتظر منذ ساعة، وأخرّنا عليك موعد الغداء، فإننا نأمل أن نلتقي بك مجدداً من أجل حوارات أخرى.
**أهلاً بكم متى شئت.. ومتى وجدت حاجة للحوار فذلك يسعدني أيضاً.
يذكر أنه أقيم في دار السعادة للمسنين بـ"حلب" في مطلع العام 2008 حفل تكريم لعالم النفس السوري الأستاذ الدكتور "فاخرعاقل" ذي التسعين عاماً، قضى سبعين عاماً منها في العمل بعلم النفس. وكان التكريم برعاية نائب رئيس الجمهورية الدكتورة "نجاح العطار".. وهو حائز على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة.