أوّل ما يُذكر اسم الأديب مالك صقور في المشهد الثقافي السوري؛ فإنّ جملةً من الأفكار ستخطر على بال الإنسان المتابع للحركة الثقافية في سورية.. ولعلَّ أبرزها "يسارية" مالك صقور التي تنقل بها على الكثير من جبهات اليسار الشيوعي السوري، ومن ثمّ دراسته في (الاتحاد السوفييتي) سابقاً، وتأثره بالكثير من الأدباء الروس قديماً وحديثاً، وكان أن تنوّعت شواغله الإبداعية على ثلاث جبهات هي: القصة القصيرة والترجمة والنقد.. وهنا لابأس من ذكر أنه كان رئيس الاتحاد الكتّاب العرب لبعض الوقت..
ابن سهل عكّار
وحتى نعرف مرجعية شواغله الإبداعية، إضافة لما سبق ذكره، فمالك هو ابن ريف طرطوس، الذي أقام في دمشق وطرطوس، وتحديداً هو المنطقة التي يُطلق عليها (السهل – قرية كرتو أو الكريمة)، والمقصود بالسهل، هو (سهل عكّار) السوري اللبناني ذو الصيت الذائع، حيث كانت انطلاقته من ذلك السهل الوافر سواء بالخيرات كسلة غذائية متنوعة ومسافرة لكلِّ الأنحاء السورية، أو بالوفرة من البذخ البصري الأخضر الممتد بين البحر والجبال، ومن ثم كانت الدراسة في الاتحاد السوفييتي، وحياته الحزبية الزاخرة، وبعد ذلك يأتي العمل الوظيفي.. وغير ذلك من مرجعيات وبنى شكّلت معالمَ وملامحَ التجربة الإبداعية بين القصة والترجمة والنقد، وقليلاً على حواف السياسة التي لم يبتعد عنها، ولكنه لم ينخرط فيها بكامل مرجعيته الحزبية..
بوشكين والقرآن
من تلك الخلفية الحياتية الباذخة لمالك صقور اجتماعياً وسياسيّاً وحتى بيئيّاً بنى عمارته الإبداعية التي تجلت بالعديد من الكتب في تلك المجالات التي أشرنا إليها.. والتي كان أحدث إصداراتها كتابه القيّم (لماذا الفن؟) الصادر عن دار دلمون الجديدة في دمشق..
وكان أول معرفتي بالأديب مالك صقور، حين صدور كتابه الشهير اليوم (بوشكين والقرآن)، وقد أجريت معه حينها حواراتٍ عديدة حول تأثر الشاعر الروسي بوشكين بالقرآن لدرجة المحاكاة في كتابة نصوصه الشعرية.
البداية مع القصة
في القصة كان لصقور شأنٌ آخر على ما يقول الروائي والناقد علم الدين عبد اللطيف: فالحديث عن مالك صقور يستلزم الإضاءة على إبداعاته القصصية أولاً؛ فقد بدأ بكتابة القصة القصيرة في زمن مُبكر لولادة وتأسيس القصة في طرطوس، فكان من الرعيل الأول بعد حيدر حيدر، ومحمد كامل الخطيب، وأنيس إبراهيم.
وأصدر عدة مجموعات قصصية.. أولها حملت عنوان (الجقل)، ثم أصدر (حبة شجاعة، والسماء ليست عالية)، وأصدر بعدها عدة مجموعات ثانية.
وربما تساءل الكاتب تلميحاً، فيما إذا كانت الشجاعة وحدها تكفي في هذا الزمن، إلا أنّ المطلوب هو الحد الأدنى في أضعف الإيمان، وخصوصاً أن الإنسان لم يعد قادراً على صنع مصيره حتى لو أراد.. ويبدو في حالات القسوة والضعف والأمل والخيبة؛ يواجه مصيراً ليس من اختياره متوحداً ومغترباً.
أبطاله فقراء وكادحون
تقول الدكتورة هناء إسماعيل عن تجربة الأديب مالك صقور: عرفت الأديب مالك صقور عندما كنت طالبة دراسات عليا، وقد التقيتُ به لأول مرة في فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس في مبناه القديم بالصالحية، ذلك البناء المتداعي المعتم الذي يبعث الكآبة في النفس لمن يدخله للمرة الأولى على الأقل، وهو الشعور الذي راودني أنا شخصياً.
ما يهم أني كنت قد اعتدت زيارة الأديب أحمد يوسف داوود الذي كان حينها أميناً للسر، وكان الأديب عبد اللطيف محرز رئيساً لفرع الاتحاد.
كنت أتردّد للإفادة من خبراته والاستماع إليه، وكنت معجبةً جداً بشخصيته الأدبية وروحه المرحة وثقافته الموسوعية، وأستمع للحوارات التي تجري أمامي بينه وبين أدباء آخرين، وقد أقرأ له كتاباتي في الشعر والقصة لأسمع رأيه فيها.
وعلى هذا كان لقائي الأول بالأديب مالك صقور الذي شعرت حين رأيته بشيءٍ من الرهبة، فقد كان على خلاف الأديب أحمد داوود، رأيته جدياً يتكلم باقتضاب، وربما ينظر إليَّ بفضولٍ، وكذلك كنت أنا.. ومرت أشهر قبل أن أعرف أنه أديب وقاص وناقد ومترجم، وما سواه مما عرفته لاحقاً في الفترة التي صار فيها الأديب أحمد داوود في دمشق وصار الأديب غسان ونوس أميناً لسر الاتحاد وفيما بعد رئيساً له، وقد أصبحتُ معروفة لدى جمهور الاتحاد بمشاركاتي الأدبية وبتقديمي للمشاركين أيضاً.. وشيئاً فشيئاً توطّدت معرفتي بالقاص مالك صقور، وأعجبت بطريقة تقديمه لقصصه، والتي غالباً ما تأخذ نبرة تمثيلية أحببتها، وسرت على طريقتها، ولفت نظري ولعه بالقص الواقعي وتغليبه الواقعي على الفني، وليس ذلك من باب الانتقاص من موهبته وخبراته في الكتابة، ولكن تأكيداً على مبدأ الالتزام بالإنسان البسيط ومشكلاته على أرض الواقع.
فأبطالُه هم أبناء هذه الأرض فقراء كادحين أو مثقفين يشعرون باغترابهم في هذا العالم، وبخيبة أملهم فيه أو هم ممن يسكنهم حب الوطن، ويحملون همومه في قلوبهم ويترجمونها، إما واقعاً عملياً بمحاولة الانتصار له، أو التأزم بسبب ما تعرض له من أذى، لا على المستوى الإقليمي فحسب داخل سورية، وإنّما على مستوى الوطن الكبير، وخاصة ما يتعلق بلبنان وفلسطين.
ومن هنا يبتعد مالك صقور في قصصة عن اللغة الشعرية، وعن حيل السرد المعروفة باتجاه أدب يصل إلى كلّ القراء عبر لغة واضحة بسيطة من نوع السهل الممتنع، فالبساطةُ عمقٌ في طرح الفكرة ومعالجتها، والوضوحُ لا يعني ابتذالاً في الطرح والمعالجة.
الخبير بأدواته
تتابع هناء في وصفها لأدب صقور: "هو القاص الخبير بأدواته، الناقد الذي يعرف كيف يتعامل مع الشاذ والغريب في أي عملٍ آخر، القارئ النهم والمثقف الكبير الذي قدّم للمكتبة العربية إسهامات عدّة في الأدب إبداعاً وتنظيراً، كما ترجم العديد من الأعمال العالمية وخاصةً الروسية، حيث تجد في قصصه النقد الشفيف غير الجارح، واللقطة الساخرة اللطيفة غير المباشرة، وعن نفسي كان لي شرف دراسة أعماله القصصية في أطروحتي للدكتوراة إلى جانب دراستي للأديبين العزيزين غسان ونوس ونصر محسن من خلال دراستي للقصة السورية المعاصرة في ضوء أفق التوقع".
جرأة أسلوبية
أعمال الكاتب مالك صقور جديرة بالقراءة، وهي على كثرتها تُعبّر عن جودة نوعية، وهي علامة الجدّية في العملين الثقافي والأدبي، والمسؤولية العالية لديه بمهمته بوصفه أديباً وإنساناً في الآن نفسه.
وفي (المدونة) عن الأديب مالك صقور، يقول الناقد والأديب علم الدين عبد اللطيف: في قصص مالك نجد جرأة أسلوبية متوازية مع لغة منطلقة. قد يكون هذا مناسباً لتقديم نصوص تتسم بالسخرية باعتبارها الأسلوب الأمثل لتقديم الرؤية الكارثية للعالم.. ومضمون السخرية أساساً ينتج من انعدام الرغبة بإطلاق الإمكانية، أو حتى ردّة الفعل، لذلك يبدو شرُّ البلية ما يضحك.. وربما صار الضحك شراً، أو عارضاً مُرضياً يقفُ أمامهُ الطبيبُ عاجزاً، أو محتاراً.. فهو بمواجهة حالةٍ شاذة ومركبة في آن. ضحكٌ مرضيّ، وفرحٌ مأساوي.
ويجد عبد اللطيف أنّ مؤشر الرغبة عند الكاتب صقور بتقديم الهم يبدو مركباً، حيث يجتمع الهم الشخصي مع همُّ العالم من منظورٍ إنساني جمعي لحالةٍ نموذجية يمكن تعميمها على الكل. وهذا ما يُشكّل خصوصية عالم مالك صقور الإبداعي من أنها تنطلق من قراءةٍ شموليةٍ للواقع والحياة عبر استحضار الثقافي والسياسي بشكلٍ طاغٍ لإنتاج المعنى المُعادل للكلية المعرفية، وبالاشتراك مع الموروث، وربما المقدس، بما في ذلك الحضور الصوفي، والتأكيد على مقولات الكاتب من خلاله..
الشخوص في قصصه بين الحلم والواقع
في مقاربةٌ للنسق المعرفي الجمعي لدى الشرائح المنتجة لشخوص قصصه، والتي هي بالاساس مادته، وأصل تكوينها النفسي والإنساني، نجدها تمنح نصوصه مصداقيةً خاصةً عبر حضوره المتعمّد أحياناً الذي يُسهم في تكوينها، واستكمال تشخيصها الواقع والخيال، الحق ونقيضه، مساحة الحلم ومساحة الواقع.. تتبادل أماكنها بتكنيك إبداعي، وقد تفيض عن المألوف، إلا أنها تبقى محوراً ثابتاً تنجذب إليه خيوط السرد؛ مواجهة القدر والواقع، والتموضع الدائم في همِّ الحاضر.
إبداع يتخطى إلى الترجمة
تدفّق الإبداع عند مالك صقور تعدى الأدب ووصل إلى الترجمة عن الروسية –حسب عبد اللطيف- فترجم عدّة كتب وأعمال لأدباء ومفكرين روس: بوشكين، وبيلينسكي. وكان آخر كتاب ترجمه عن الروسية بالإشتراك مع الأديب شاهر نصر هو (أسس البناء الروائي) للناقد والمفكر الروسي الكبير ميخائيل باختين، وهو كتاب ضخم، أغنى من خلاله المكتبة العربية بمادّة مهمّة لكتابة الرواية.