منذ أكثر من ثلاثمائة سنة وتحديدا في العام /1708م/، رسم "نعمت الله" وابنه "حنانيا" هذه الأيقونة التي تعتبر حتى يومنا هذا من أقدم وأشهر الأيقونات السورية ومن الأيقونات النادرة والمهمة على مستوى العالم.

تتوضع هذه الأيقونة في كاتدرائية "الأربعين شهيد" في حي "الصليبة" في مدينة "حلب"، وهي موجودة هناك منذ أن تم رسمها في القرن الثامن عشر خصيصا للكنيسة كتبرع من "نعمت الله" وابنه.

كان الفنانون القدماء يجيدون استخدام المواد الطبيعية كألوان حيث كانوا يستعينون بأتربة محددة مع بياض البيض لعمل هذه التشكيلة من الألوان والتي نلاحظها في هذه اللوحة حيث فيها كل التدرجات اللونية التي كانت موجودة في ذاك الزمان من قاتمة أو فاتحة

أما كلمة "أيقونة"، فترمز لكل صورة ذات موضوع ديني أو مسيحي بشكل عام حيث قد تمثل السيد المسيح أو "مريم العذراء" أو القديسين أو حتى مشاهد من الإنجيل المقدس، وكانت هذه الأيقونات تتواجد من الماضي في الكنائس أو البيوت.

ومن ناحية ثانية، يعتبر كلا من الرسامين "نعمت الله" وابنه "حنانيا" من نسل عائلة "المصور" الحلبية الشهيرة والتي كان عميد هذه الأسرة "يوسف المصور" أبو "نعمت الله" من أشهر رسامي الأيقونات في منطقة "بلاد الشام" وصاحب مدرسة خاصة به في فن رسم الأيقونات، حيث قدم هو ومن جاء من نسله لاحقا ولأربعة أجيال أروع الأيقونات والتي لازال الكثير منها موجودا ويعرض في بعض من متاحف العالم.

نادرة بالحجم والعدد...

تعتبر هذه الأيقونة من الروائع ومن أروع ما تركته عائلة المصور للبشرية حيث تصور بأبعادها الكبيرة الحجم 600‏x ‎ ‏400 سم يوم الحساب بكل التفاصيل الصغيرة التي ذكرت في "الكتاب المقدس"، وقد زرنا كاتدرائية "الأربعين شهيد" التي تحتضن هذه الأيقونة النادرة فقال لنا السيد "كيفورك" المسؤول عن خدمة الكنيسة:

مذبح كنيسة الأربعين شهيدا

‏«تمثل هذه الصورة "دينونة العالم" أو "يوم الحساب" كما تحدث عنه الكتاب المقدس ونجد من الأعلى السيد المسيح مع أمه "مريم" و"يوحنا المعمدان" وفي الأسفل الحواريين، وفي الطرف الأيمن هناك المؤمنين والذين نالوا ملكوت السماء وإكليل البر والشهادة، أما من الطرف الآخر فنجد العذاب للخاطئين مثل السكير والقاتل والذي يتكلم بأعراض الناس والذي يشهد الزور وكل له عذابه الخاص به وفقا للذنب الذي ارتكبه».

وتعتبر هذه اللوحة من أبرز الأيقونات الموجودة ليس فقط في "سورية"، إنما على مستوى منطقة "بلاد الشام" بأسرها. وفي سبيلنا للاستزادة ومعرفة المزيد عن هذه الأيقونة النادرة، التقينا الأب "بيير المصري" الباحث والدارس لفن الأيقونات والذي تحدث لنا عن خصائص ومزايا هذه الأيقونة في اللقاء الذي جرى بتاريخ 1 / 2 /2009 قائلا:

‏«من الأمور التي تميز هذه الأيقونة عن غيرها بادئ ذي بدء هو حجمها الكبير، حيث من النادر وجود أيقونات في مثل هذا الحجم على اعتبار أنه في حالة مثل هذه الأحجام يتم رسم "جدارية" (رسم المشهد على الجدار) مثل الجدارية الموجودة في دير "مار موسى الحبشي" في منطقة "النبك" بدلا من وضعها على قماش كما من حالة هذه الأيقونة. وقد تم تفصيل قياس هذه اللوحة خصيصا لكي تتناسب مع جدار كنيسة "الأربعين شهيد" حيث إذا نظرنا إلى شكل اللوحة فسنجد أنه عبارة عن مستطيل ينتهي في أحد أطرافه الضيقة بانحناءة أقرب إلى شكل القوس في الأعلى، واللوحة متوضعة بشكل عمودي على الجدار داخل قاعة الكنيسة».

ولدى "نعمت الله المصور" العديد من الأيقونات المنتشرة في أماكن أخرى متفرقة حيث له لوحة ثانية مصنوعة من القماش في دير "البالامنت" في منطقة "البالامنت" في "لبنان" ولكن يقول الأب "بيير" أن هذه الأعجوبة الثانية اختفت خلال الحرب الأهلية اللبنانية مما جعل اللوحة الموجودة في كنيسة "الأربعين شهيد" الوحيدة التي تمثل هذا النوع من الأيقونات القماشية في العالم على اعتبار أن بقية الأيقونات كانت ترسم عادة على قطع خشبية وبطول لا يتجاوز المتر في المتوسط.

"يوم الدينونة"...

ويتابع الأب "بيير" قائلا:

‏«أما الشيء الثاني الذي يميز هذه اللوحة فهو موضوع الدينونة أو "يوم الدين" حيث تمثل مشهدا يضم عددا كبيرا من الأشخاص. وقد قسمها هو إلى أربع مستويات (أو طوابق)؛ أعلاها يحوي العرش الإلهي وفيه السيد المسيح مع "مريم العذراء" و"يوحنا المعمدان". وفي المستوى الذي يليه يتواجد تلاميذ السيد المسيح الاثني عشر. أما الثالث ففيه الأبرار والقديسين، وهنا توسع "نعمت الله" أكثر من لوحته المرسومة التي كانت موجودة في دير "البالامنت" حيث استطاع هنا إعلاء منطقة الفردوس إلى فوق، وترك الجحيم كله للطابق السفلي مجسدا عددا كبيرا من العقوبات الموجودة في الجحيم. وإذا قررنا أن نقسم اللوحة من الناحية العمودية فسنجد أنها مقسومة إلى قسمين عن طريق "نهر النار" وهو نهر أحمر ينزل من تحت عرش المسيح، إضافة إلى وجود الميزان الذي يقوم بحساب أعمال الإنسان أعلى ذاك النهر مع وجود كل من الملائكة والشياطين كل منهما على طرف يشده أحد طرفي الميزان إليه في مشهد تخيلي تصوره "نعمت الله المصور" للميزان ومحاولة اجتذاب صاحب هذه الأعمال إلى الجنة أو النار، هذا النهر يقسم اللوحة إلى قسمين: يمين المشاهد (أو يسار اللوحة) وهو الطرف المظلم وفيه الأبالسة والشياطين، وعلى يسار المشاهد (أو يمين اللوحة) نجد فيه الفردوس».

الفردوس يمثل البيت الحلبي!

ويضيف أن مشهد الفردوس هو من أجمل مشاهد اللوحة حيث يقول:

‏«جمع "نعمت المصور" في هذا المشهد ما بين الزخرفة من خلال وجود أحجار الموزاييك الحلبية القديمة ذات اللونين الأسود والأبيض عند مدخل الجنة والتي نجد مثيلا لها في بوابات حلب القديمة، إضافة إلى أنواع أشجار كانت موجودة في بيوت "حلب" القديمة. أي أنه تصور الجنة بشكل "بيت حلبي عربي قديم"! وتوفرت في هذا المشهد الصغير من اللوحة كل العناصر الزخرفية والطبيعية الموجودة من البيوت الحلبية القديمة آنذاك».

كل وجه مختلف عن الآخر...

ويضيف الأب "بيير" أن من العناصر الأخرى التي تميز اللوحة، هي الرسم المميز للوجوه فيها حيث نرى الوجوه لكل من القديسين و الأبرار وحتى السيئين كل وجه مختلف عن الآخر وذي ملامح مختلفة في الوقت ذاته، وبالنسبة للألوان التي استخدمت في رسم اللوحة فكانت كلها ألوان طبيعية حيث يتابع قائلا:

‏«كان الفنانون القدماء يجيدون استخدام المواد الطبيعية كألوان حيث كانوا يستعينون بأتربة محددة مع بياض البيض لعمل هذه التشكيلة من الألوان والتي نلاحظها في هذه اللوحة حيث فيها كل التدرجات اللونية التي كانت موجودة في ذاك الزمان من قاتمة أو فاتحة».

أما المشهد الأكثر تأثيرا وحتى "طرافة" كما يقول فهو مشهد العذابات والأسباب التي أدت لها وهي مقسمة إلى /18/نوع من الخطايا منها السارقين والغشاشين والنمامين و حتى النساء الذين لا يرضعون أولاد الجيران أو الرجال الذين لا يقومون إلى قداس يوم الأحد، وتعبر هذه "العذابات" -كما يقول - عن النظرة تجاه خرق القيم الأخلاقية السائدة في نسيج المجتمع الحلبي آنذاك بكل أطيافه وحتى دياناته».

أما آخر الأشياء التي تميز هذه الأيقونة فهو امتلاؤها بالتفاصيل الدقيقة المأخوذة معظمها من الكتاب المقدس مثل مشهد "العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات" وغيرها الكثير والتي تحتاج إلى بحث منفصل قائم بذاته.

وخلاصة القول هو أن أيقونة "يوم الدينونة" قدمت في المجمل الكثير من العناصر والتي جعلتها بحق واحدة من أجمل ما رسم من هذا المجال، ومن أروع ما خلده سكان مدينة "حلب" خلال الفترة الماضية.