من النهاية إلى البداية، تلك هي طريقة قراءة علم الآثار كما يصفها، لكنها ليست تجربة ثلاثين عاماً وحسب، تلك التي خاضها بعيداً عن بلاده، متسائلاً عن صنّاع تلك المنحوتات والأبنية القديمة، فهي هواجسٌ منذ أيام الصبا، وبعد زياراتٍ متعددة، يعود ليتحدث عن آثار بلاده، ويبحث عن آذان صاغية.
يعتبر كلّ ما هو متعلق بالتراث والحضارة القديمة، ثروة لا تقدر بثمن، وبذلك تكون حمايتها برأيه من مسؤولية الجميع، فكيف بدأت قصته مع التاريخ القديم، وسفره بعد ذلك؟ هذا ما أردنا معرفته في لقائنا مع د. "ضرار الريس".
كان قرار الزواج قبل التخرج من أجل الاستقرار، لأننا كعرب لسنا معتادين على حياة الأوروبيين التي يتخللها بعض الفوضى واللهو، وبعد التخرج كان أولادي "سامي وبدر" قد كبروا، وهم الآن أطباء، "بدر" جراح قلب وشرايين، و"سامي" طبيب بشري مختص بطب النفس، وما زالوا هناك
ما هي أهم المراحل التي سبقت سفرك للقارة الأوربية؟.
«كانت غريزتي وميولي الجامعية تتجه نحو التاريخ وعلم الآثار، لكنّ درجات الدراسة لم تسمح بذلك، وربما يكون سبب تلك الميول بعض المغارات ذات الدهاليز، الموجودة قرب منزلنا في قرية "الخراب"، حيث تدلّ الأشياء والأشكال فيها على وجود حضارات قديمة، وكنت أتابع مؤلفات لكتاب وفلاسفة عالميين مشهورين، مثل "برت راندرسل" الإنكليزي، و"كون ويلسون"، وأعتبرها قواعد في البحث عن الحقيقة اعتماداً على التاريخ».
إذاً كيف بدأت رحلتك خارج حدود الوطن بعد ذلك؟
«كان السفر هو الحل الوحيد لدراسة الفرع الذي أريده، وكانت الفكرة هي الدراسة في "إيطاليا"، لكنّ أقربائي شجعوني للسفر إلى "إسبانيا"؛ لأنها شبيهة ببلدنا، وبمحافظة "طرطوس" تحديداً بحسب قولهم، إضافة إلى البيئة وكثافة السكان المناسبتين.
استقريت في "فالينسيا"، وقد واجهتنا بعض التحديات كطلاب، مثل صعوبة بعض المواد، ووجود مدرسين يهمهم تخريج أقل عدد ممكن من الطلاب، ويعيقون تخرج العديد منهم، فكنا نضطر إلى تسجيل هذه المواد في مدينة ثانية مثل "أشبيليا"، حيث انتقل معنا عدد من الطلاب أكثرهم من السوريين، إضافة إلى الأردنيين، الفلسطينيين واللبنانيين، ثمّ إلى "فالينسيا" لنفس السبب، ومنها إلى "برشلونة" من أجل النجاح في بقية المواد أيضاً».
أي أنّ أصعب المراحل كانت تمثل الدراسة، وليس العمل؟
«هكذا كان نظام الدراسة، حيث يفرض بعض المدرسين شروطاً معينة، وقد قمنا في إحدى الفترات بمظاهرات مع الطلاب الإسبان بسبب هذا التعسف في الدراسة.
كان التخرج بعد ذلك في "برشلونة"، ومن ثم العمل بين "برشلونة وفالينسيا" لمدة حوالي ثماني سنوات، حيث ساعدني ذلك على تحسين وضعي المادي، وزيادة الخبرة في جميع مجالات التخصص "طب داخلي، جراحي..."».
كيف كونت أسرتك هناك، أما تزال في "إسبانيا"؟
«كان قرار الزواج قبل التخرج من أجل الاستقرار، لأننا كعرب لسنا معتادين على حياة الأوروبيين التي يتخللها بعض الفوضى واللهو، وبعد التخرج كان أولادي "سامي وبدر" قد كبروا، وهم الآن أطباء، "بدر" جراح قلب وشرايين، و"سامي" طبيب بشري مختص بطب النفس، وما زالوا هناك».
أشرت إلى دراستك لعلم التاريخ القديم لاحقاً، فكيف قمت بذلك أثناء عملك كطبيب؟
«بعد أن استقريت في "فالينسيا"، أصبحت أهتمّ بميول المراهقة نحو التاريخ والآثار، وخاصة لوجود تسهيلات لهذه الدراسات عن طريق المراسلة، فتابعت دراسة التاريخ وعلم الآثار، وقدمت أطروحات عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط وآثارها، منها أطروحة تتضمن شرحاً مفصلاً عن تاريخ "الإمبراطورية العبلية"، بعنوان "إيبلا المدينة البيضاء"، وهو ما تعنيه كلمة "إيبلا" باللغة العبلية.
نالت هذه الأطروحة إعجاب د."فرناندو فرنانديس"، ومنحني درجة جيد جداً، وكمبادرة منه أعطاني نفس الدرجة في نتائج الدراسات التاريخية، وبنفس الوقت قمت بإعداد أطروحة تهتم بما قبل التاريخ في القارة الأمريكية؛ "ما قبل الميلاد"».
هل عملت في مجال مختلف عن الطب، بعد دراسة التاريخ؟
«عينت شرفياً بعد انتهائي من دراسة التاريخ في أهمّ متاحف "فالينسيا"، ويدعى "السيراميك"، وقد استدعيت بعد ذلك من قبل الحكومة الإسبانية ووزارة الداخلية للعمل في "مدريد"، لتحسين العلاقات بين "إسبانيا" والدول العربية والجاليات العربية، والتدخل كوسيط لإصلاح أية أزمة تحدث، وقد تمّ اختياري لهذا المنصب؛ اعتماداً على معلوماتهم عني، وصداقتي المعروفة مع شخصيات إسبانية وعربية، وحدث بالفعل أن استدعيت للتدخل في عدة حالات، تخص "المغرب والجزائر"، وأعضاء من السلك الدبلوماسي الأردني».
ما أهم أنشطة الجالية العربية، والسورية خصوصاً في المغترب؟
«عندما استقريت في "فالينسيا" أصبحت عضواً في جمعية "الصداقة الإسبانية السورية" المؤسسة منذ حوالي ثلاثة عشر عاماً، وكنت من المؤسسين لها وللمركز الثقافي العربي الإسباني والجامع الكبير في "فالينسيا"، حيث طالبنا بأرض مناسبة، وقد منحنا رئيس البلدية أرضاً واسعة في أحسن مناطق "فالينسيا" لبنائهما.
وبالنسبة للجمعية، فهي تقوم بحفلات ومهرجانات، والتحضير لمناسبات وطنية إسبانية وعربية، واستضافة عائلات إسبانية وسورية، وتنظيم رحلات من "إسبانيا" إلى "سورية" وإلى البلدان العربية بشكل مستمر».
ما أهم نشاطاتك خلال زياراتك إلى بلدك، وقبل عودتك بشكل نهائي؟
«كنت ألتقي خلال زياراتي إلى سورية أحد أقربائي، ويعمل مهندساً في مجلس مدينة "طرطوس"، وحاولت دائماً مناقشة المجلس حول أهمية تاريخ بلادنا، والاهتمام بجميع آثارها من أجل تطوير السياحة، مبيناً لهم أنّ أول أبجدية في التاريخ هي العربية الفينيقية في "أوغاريت"... ».
ما هي التجارب التي يمكن أن نستفيد منها في تطوير سياحتنا؟
«من الأشياء التي كانت تحمسني على المناقشة والحوار مع المعنيين وتقديم الاقتراحات؛ أنني كنت ألاحظ التطور المفاجئ والسريع الذي حدث في "إسبانيا" من الناحية الاقتصادية، والذي كان سببه السياحة وما لديها من آثار عربية، تعتبر حديثة نسبياً بما لدينا نحن، فمن المدهش بأنّ دولة مثل "إسبانيا"، عدد سكانها يقارب أربعين مليوناً؛ يدخلها سواح بعدد 140 مئة وأربعين مليون سنوياً، بحيث يمكن أن نترجمها اقتصادياً؛ بأنّ مدخولها من السياحة هو عشرة أضعاف دخل "السعودية" من البترول».
ما أهمية تطوير القوانين المتعلقة بالآثار، ودعم القطاع السياحي بحسب رأيك؟
«خلال زياراتي إلى هنا لفت انتباهي أنّ مشروع "طرطوس القديمة" لم يطبّق، وللأسف أضرّ أيضاً بالسكان؛ لمنعهم من ترميم بيوتهم لاعتبارها منطقة أثرية، وفي "باريس" مثلاً أشهر عواصم "أوروبا"؛ ليس من الغريب أن ترى قوساً صخرياً من العصر الروماني، مرممة بأناقة وموجه عليها أضواء في الليل، وبالقرب منها أضخم الفنادق، مما يجعل ذلك مغرياً لأيّ إنسان، عندما يفكر بأنه في نفس المنطقة التي يقيم فيها، كانت هناك حضارات قديمة، وخلاصة قولي أنّ موضوع الآثار في سورية مرتبط جداً بمستقبل سورية الاقتصادي، ومهم جداً ويحتاج إلى متخصصين، وبأسرع وقت ممكن لتصحيح هذه الأمور».
كيف تجد واقع الاستثمار السياحي في محافظة "طرطوس"؟
«بالنسبة لجزيرة "أرواد"؛ يمكن إقامة مجمع سياحي عائم، أسوة بما هو قائم في "هولندا"، وهو مشروع مربح جداً للشركة المنفذة ولبلدنا، ويحافظ على مقومات السياحة الأساسية في الجزيرة من آثار وتراث ومنازل قديمة، وهذا يعدّ أمراً مغرياً جداً للسياح، ومهم تاريخياً بالنسبة لنا، وبالإمكان أيضاً توسيع جزيرتي "النملة والحباس" بنفس الأسلوب، واستغلالها سياحياً، فكما نعلم؛ أنّ نصف "هولندا" مكوّن من جزر عائمة، وهي أكثر الدول شهرة في هذا المجال، حيث تعني تسمية Nederland "الأرض السفلية"».
وفي مدينة "طرطوس"؟
«لدي ملاحظات على مشاريع الشاطئ؛ فتلك المواقع التي تمّ ردمها بالكامل، كانت المكان الذي غرقت فيه العديد من المراكب، القادمة منها والمغادرة من المرافئ السورية في فترة ما قبل الميلاد، فيمكن إجراء مسح تجريبي في موقع معين، لمعرفة ما يمكن العثور عليه من بضائع قد تحمل دلالات تاريخية هامة عما كانت تحمله المراكب، وما كانت تنقله في كلا الاتجاهين.
كما أنّ الدراسات الحديثة تشير إلى أنّ مستوى مياه البحار سيرتفع في السنوات القادمة، لذلك تلجأ الدول لرفع مستوى شواطئها، كما في "هولندا" مثلاً، لذلك من الحكمة رفع مستوى الشاطئ الآن، في الوقت الذي يتم فيه استكمال المشروع».
مشروع "المدينة القديمة"، الذي تحدث عنه د. "ضرار"، تمّ توقيعه عام 1999، بتمويل إسباني، لكنه لم يستمر لأكثر من عام، وتضيف عنه المهندسة "ماري يازجي"؛ رئيسة "دائرة المدينة القديمة" التابعة لمجلس المدينة: «كان الهدف من هذا المشروع، تحسين الوضع المعيشي للسكان وترميم المنازل، لتحقيق الشروط الصحية الصالحة للسكن، إضافة إلى المحافظة على الإرث التاريخي والمعماري للمنطقة، والتمويل كان كنوع من المساعدات الخارجية، الذي من شأنه أيضاً خلق فرص عمل للسكان الراغبين، وقد توقف العمل بالمشروع عام 2000 لأسباب متعددة تتعلق بالجانبين».