لا عجب إذا سألت أحد أبناء مدينة "بانياس" عنه وأجاب "يبدو أنك لست من هنا؟!"؛ فالرجل المعروف بسمعة نادرة هو صاحب أبحاث غير مسبوقة حول تاريخ المدينة وآثارها، في فترة كانت أحوج ما تكون إلى اهتمام مماثل، خاصة بعد الغموض الذي لفّ أسباب تراجع الحياة فيها حتى القرن التاسع عشر ولفترة تجاوزت أربعة قرون.
يعرفنا به ولده البكر المهندس "خالد الأعسر" قائلاً: «هو من مواليد مدينة "بانياس" 1931- 1996، نشأ في عائلة اشتهرت بالتحصيل العلمي العالي والانفتاح على الجميع.
لقد توقفت رحى الطواحين المائية عن الدوران في العقد الخامس من هذا القرن فقط، والحديث عن "بانياس" الرومانية يشدني، لقد عملت فيها الزلازل والإهمال ويد الإنسان تخريباً، وتمزيقاً وغاب مسرح المدينة ومعبدها تحت تلة كبيرة ولكنّ الأرض تكشف بين حين وحين عن لقى أثرية نجد القليل منها في متحف "طرطوس"...
حصل على أهلية تعليم سنة 1951 وبكالوريوس تاريخ من "جامعة دمشق" عام 1971، كما عمل في التجارة وكان معروفاً بحسن خلقه وسعة أفقه وعلمه وتقبله للجميع وقبوله من الجميع، واهتمّ بالبحث التاريخي وخصوصاً تاريخ الساحل السوري وسورية القديمين».
عاش الباحث في محافظة "دمشق" حتى منتصف الستينيات واختصّ بالتاريخ القديم واللغة العبرية، لكنّ ما ترك بالغ الأثر خلال مراحل حياته لم يحصل عليه من مقاعد الدراسة؛ بل بقدرته على الإصغاء والتواصل مع الجميع وبمختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، هذا ما شرح عنه السيد "عمر الأعسر" مضيفاً: «بدأ هواية البحث التاريخي سنة 1968، حيث شجعه أصدقاؤه ومنهم المحامي "يوسف حبيب"، فبدأ التركيز على الآثار والقلاع في مدينة "بانياس" وكان محباً للطبيعة إلى درجة كبيرة، حيث كان يذهب في الصباح الباكر إلى قلعة "القوز" ويقيس حجارتها، وإلى قلعة "المرقب" حيث يأخذ المعلومات من الفلاحين مهتماً بآراء الناس بجميع أعمارهم».
وتابع: «اهتمّ بشكل خاص بالتاريخ المخفي والمنسي لمدينة "بانياس، قلعة القوز وتل الدرّوك"، كما قام بإعداد أبحاث مفصلة عنها وعن أسماء القرى وأرجعها إلى أسمائها الآرامية والكنعانية القديمة بشكل موثق، وقد استغرقت هذه العملية منه حوالي سنتين، كما نشرت له عدة أبحاث في جريدتي "تشرين والثورة" عن تاريخ المنطقة، وأعدّ برنامجاً إذاعياً وثائقياً عن ذلك».
قلعة تاريخية وأحد أحياء المدينة حالياً هو حال "أوزا" الكنعانية، ومعرفة أصولها كانت من الأولويات بالنسبة للباحث النشيط، كما يبين السيد "عمر": «أعدّ مخططاً تفصيلياً لقلعة "القوز" على أرض الواقع مع معلومات مفصلة عنها، كما ألقى محاضرات عن آثار المنطقة في عدة مراكز ثقافية وفي جمعية "العاديات" في محافظة "اللاذقية"، وفي إحدى زياراته إلى قلعة "الكهف" الواقعة في منطقة "الشيخ بدر" في السبعينيات أصرّ على مرافقة أولاده له ليبعث في نفوسهم حب التاريخ منذ الصغر، ومن سيرته التي تدل على حسن معاملته لجميع الناس يذكر لنا أحد معارفه دائماً أنّ له مآخذ على الكثيرين إلا "محمد يحيى الأعسر" الذي تميز بسيرته الصالحة طوال حياته».
عن علاقة والده بعامة الناس وزبائنه يقول المهندس "محمد الأعسر": «كان إنساناً صادقاً يحترم جميع الناس بجميع فئاتهم وأعمارهم، وتميز بقدرة خاصة على بناء صداقات حقيقية مع الناس، ما أكسبه سمعة طيبة بين جميع شرائحهم ساعدته على تطوير عمله.
كما عرف عنه جديته في مجال عمله التجاري في محلاته التي ورثها عن والده، لكنه كان يخصص وقتاً يومياً لا يقلّ عن خمس ساعات للمطالعة في بيته بعد الانتهاء من عمله، ولم يكن يرتاد المقاهي أو يسمح بهدر وقته بأي شكل كان، وقد اهتمّ بالحصول على الكتب التاريخية القديمة وأنفق عليها الكثير، وترك مكتبة فريدة بما تحتويه من كتب نادرة وقيمة».
أما توجهه التاريخي فقد ترسخ بفضل التحصيل العلمي وأصبح رصيداً هاماً على المستوى المحلي والعالمي، يتابع المهندس "محمد" موضحاً: «تواصل مع معظم الباحثين الأجانب الذين زاروا مدينة "بانياس" وقلاع محافظة "طرطوس" في فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات حتى إنّه كان يستضيفهم، وكان أحياناً يترك عمله ليتابع أو يتواصل مع المهتمين بالآثار، كما كان يكلف شخصياً أحياناً من قبل "دائرة آثار طرطوس" بالتعاون مع البعثات والباحثين المهتمين بآثار مدينة "بانياس"».
في محاضرة ألقاها سنة 1991 في المركز الثقافي في مدينة "بانياس" عن آثار المدينة ومحيطها، يقول الباحث "محمد يحيى الأعسر": «...ونستطيع أن نتطلع إلى البحر من هنا أيضاً فنرى من خلالِ ضباب الزمن سفينة فينيقية تتجه إلى "اليونان"، ربانها "قدموس"، تحمل الزيت والأرجوان والزجاج ولوحاً فخارياً سطرت عليه الأبجدية الأولى، أبدعتها الحضارة التي تشغل نصف الباحثين المنقبين في تاريخ العالم، ولنا أن نتذكر وبفخر كلمة أحد أولئك الباحثين إذ يقول: إنّ لكل متحضر حضارتين... حضارة بلده وحضارة سورية القديمة».
ويتابع في نفس المحاضرة: «ومن أين نبدأ بالحديث عن "بانياس" التاريخ... هل نبدأ بمحاولة لقراءة تاريخ الإنسان في العصور الحجرية من خلال مئات الكهوف المحفورة في وديان جبالنا، والتي تجعلنا نحكم ودون خطأ بأنّ الإنسان الأول قد عاش عهوده المختلفة في هذه البقاع التي كانت منذ البدء الوطن الأول للحياة والحضارة... أنبدأ بـ"أوزا" الكنعانية التي تطلّ بأسوارها التليدة على "بلانة" الإغريقية والتي تبدو بقايا حماماتها في "رأس النبع" كالوشم في ظاهر اليد؟».
ويشير الباحث في محاضرته إلى أهم المعالم الأثرية في مدينته والتي شغلت حيزاً من أبحاثه واهتمامه لسنوات: «لقد توقفت رحى الطواحين المائية عن الدوران في العقد الخامس من هذا القرن فقط، والحديث عن "بانياس" الرومانية يشدني، لقد عملت فيها الزلازل والإهمال ويد الإنسان تخريباً، وتمزيقاً وغاب مسرح المدينة ومعبدها تحت تلة كبيرة ولكنّ الأرض تكشف بين حين وحين عن لقى أثرية نجد القليل منها في متحف "طرطوس"...».