قلة من يعرف أنه في الأربعينيات من القرن الماضي كان في سورية ومدنها الكبرى كدمشق وحلب وحمص؛ أسواق مالية غير منظمة كـ "سوق البورص" في دمشق القديمة والذي كان يقوم بكل عمليات التداول من بيع وشراء للأسهم والعملات والمعادن الثمينة.
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهت هذا السوق كعدم توافر وسائل الاتصال الحديثة وأساليبها، إلا أنها كانت سوقاً نشطة يمارَس العمل فيها بحرفية فكانت من جهة سوقاً للصيرفة أي لبيع العملات العربية والأجنبية بحرية، ومن جهة أخرى لتداول المعادن الثمينة كالذهب والفضة غير المصاغ، كما كان يتم تداول أسهم الشركات بيعاً وشراءً وتسجيل هذه العمليات في سجل الشركات أصولاً.
ويعود الفضل- بحسب ما ذكر السيد "محمد غسان قلاع" رئيس اتحاد غرف التجارة السورية لموقع eDamascus- لسوق البورص في الفترة ما بين الثلاثينيات والستينيات بتأسيس عدد من الشركات المساهمة الكبرى بلغ عددها في العام 1956 (177 شركة) وعدد أسهمها نحو ثلاثة ملايين سهم، كل تلك النشاطات المالية كما يحدث اليوم في الأسواق المالية المتحضرة، كانت تدار من خلال "سوق البورص".. كما كان يطلق عليه في سورية هذا السوق الذي اتخذ مكانا له على خاصرة سوق الحميدية، باتجاه سوق الحريقة، معلناً البداية في عام 1941.
البيع والشراء
كانت مهنة بيع وشراء الأسهم والعملات بحسب "القلاع" من المهن المعتادة في الوسط التجاري السوري، بل كانت معتادة بين الأشخاص الذين كانت بعض هداياهم عبارة عن أسهم تباع وتشترى في دمشق وفي سوقها العريق (الحميدية) حيث ضمت بين جنباتها سوقين، الأول عند مدخل سوق الحميدية- قبل أن يزال سوق الخجا على الشارع العام- وكان هناك عدة محلات تعمل في بيع وشراء الأسهم والعملات، ومن أشهر هذه المحال "البساتنة وباب الحاج وبكداش". أما السوق الثاني فهو في منتصف سوق الحميدية ويمتد حتى الحريقة- قرب محل بوظة بكداش حالياً- وهذا ما أطلق عليه "سوق البورص" نظراً لأن عدداً من محلاته كان يشغلها بعض التجار الذين يتعاملون ببيع وشراء العملات والليرات الذهبية وبيع وشراء الأسهم، منهم "البواب وبكداش وصيرفي وعبه جي والزين، وجوخدار وأصيل ومحمد ورشدي الحلبي" وغيرهم. ولطبيعة هذا العمل أطلق على هذا السوق سوق البورص، من البورصة.
السيد "نزار قباني" نائب رئيس غرفة تجارة دمشق ذكر أنه كان يتم وضع لوح في كل محل في سوق البورص يكتب عليه أسعار الأسهم بيعا وشراء للشركات المساهمة وعمليات البيع التي جرت عليه وأشار إلى أن اثنين أو ثلاثة من الأشخاص الذين عرفوا في السوق بالثقة والدين هم من كانوا يديرون عمليات البيع والشراء ووضع الأسعار كل يوم في يومه، وعلى ألواح خشبية معلقة في صدر المحال التجارية، فهم يحددون الأسعار التي كان العرض والطلب هو الأساس في تحديدها كأسعار الذهب وأسهم الشركات المساهمة، وجميع عمليات البيع والشراء تتم ضمن السوق.
في تلك الفترة وبحسب "القلاع" لم يكن هناك قانون ينظم هذا العمل بل كان كأي عمل تجاري معتاد يعمل به من يرغب بتعاطيه، وينظمه العرف والعادة. وبدأ هذا العمل عندما شهدت مدينة دمشق افتتاح شركات مساهمة منها شركة "إسمنت دمر" وهي أول شركة سورية مساهمة افتتحت في عام 1930، وشركة المغازل والمناسج وشركة الكونسروة والمخابز الفنية وشركة التبريد، حتى بلغ عدد الشركات المساهمة في عام 1933 الثلاثين شركة بحسب "القلاع".
وكانت أسهم هذه الشركات تباع لمن يرغب بالشراء عن طريق تجار سوق البورص ومن كان يرغب ببيع أسهمه كان يقصدهم أيضا. وكان العاملون في السوق يتعاطون عمولة معينة لقاء عملية البيع والشراء.
وأضاف "القلاع" أن الكثير من النساء كانت تبيع حليها وتشتري بها أسهماً والبعض منهن يطلب معجل المهر ومؤجله أسهماً في بعض الشركات، وكان بعض القضاة الشرعيين يشترون أسهماً للأطفال اليتامى ممن ليس لديهم ولي أمر نتيجة لارتفاع القيمة وتزايد الربحية لدى هذه الشركات، وكانت العادة في ذلك الحين وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، أنه إذا أراد أحد الأشخاص إهداء شخص عزيز عليه أن يقدم له عدداً من الأسهم عوضاً عن أي هدية أخرى.
آليات التعامل
آليات التعامل في تلك الأسواق كانت تقوم على العرض والبيع ومن كان يقصد شراء أو بيع الأسهم كان يتوجه إلى تلك الأسواق التي تميزت بأنها محلات متفرقة منها من كانت منشآت فردية أو شركات تضامنية.
كانت عمليات المراقبة تتم من قبل الأعضاء أنفسهم والقيمين على العمل وعلى المشاريع المتمتعين بالثقة أثناء العملية الصناعية والتجارية، فالقناعة كانت متوافرة بالسهم لأنه سلعة تباع وتشترى ولا يدخل مفهوم الفائدة فيها، فصاحب الأسهم يعد نفسه شريكاً في الشركة، وكانت في الشركة أعداد كبيرة من الناس تدخر وتشتري أسهماً لأنها توفر بذلك مبلغاً معيناً من المال يسد حاجات معينة، فهي كانت توظف مدخراتها بهذه الأسهم، رغم أنه ليس هناك ربح دائم أو خسارة دائمة، وكذلك هي التجارة فإذا تعثرت بعض الشركات كان من الطبيعي أن تنخفض أسعار الأسهم، وإذا أصابها الربح فمن الطبيعي أن تزداد قيمة الأسهم إضافة إلى حجم الطلب. وهذه الشركات كانت مراقبة من قبل المحاسبين القانونيين الذين كانوا يعدون تقاريرهم عن أعمال هذه الشركات وهي جهات خارجية يتم انتخابها من قبل الهيئة العامة في الشركات، والتقارير التي يرفعونها ذات ثقة.
وذكر "القباني" أن إيمان الأشخاص في تلك الفترة أن الاستقلال السياسي لا يأتي إلا مع الاستقلال الاقتصادي شكل أحد الأسباب الجوهرية لفكرة الشركات المساهمة، فجميع الشركات في ذلك الوقت لها دراسات جدوى اقتصادية واضحة ومصرح بها، وأن الثقة والشفافية كانتا موجودتين، وهو ما أدى لعدم تعثر أية شركة مساهمة، ولم يسمح بأي خطأ أو سقطة مالية على أي عضو في تلك الفترة، الأمر الذي أدى لتكون جميع الشركات رابحة وبعضها رابحة بشكل كبير، وهذه الشركات تتمتع بثقة المساهمين.
حكاية البورصة في العالم العربي
حكاية أسواق المال، كما جاءت على لسان رئيس غرف التجارة السورية، تعود إلى مصر، والسيد "محمد طلعت حرب" بالتحديد الذي أدخل أول شركة مساهمة في مصر، والذي بدوره أسس بنك مصر أيضاً، وبناء على ما ذُكر دخلت باقي الشركات الأخرى، لتشكل أول سوق للمال في الإسكندرية 1883 وفي القاهرة 1890، ولم تكن هناك التقنيات الحديثة المتوافرة في الوقت الحالي، إلا أن السوق مارس عمله في تداول أسهم الشركات بيعاً وشراء وتسجيل العمليات في سجل الشركات أصولاً، وفي الفترة التي امتدت تقريباً منذ نهاية العشرينيات إلى بداية الستينيات بلغ عدد الشركات المساهمة نحو 175 شركة تدار أسهمها من خلال سوق البورص، علماً أن جميع الشركات التي طرحت أسهمها في السوق السورية شركات سورية 100% وكان يماثلها شركات في حمص وحماة وحلب، ولم تكن هناك شركات أجنبية تطرح أسهمها في ذلك السوق، بحسب "القلاع"، الذي أضاف أن سوق الأسهم وشراء وبيع العملات كان موجوداً في المحافظات المذكورة إضافة إلى دمشق، وكانت أسهم الشركات الموجودة في المحافظات تباع وتشترى في دمشق أيضاً وإن كانت خارج دمشق.
التعامل بهذه السوق استمر حتى بداية صدور مراسيم التأميم في عهد الوحدة بين سورية ومصر، وبذلك تم إلغاء الشركات المساهمة العامة التابعة لعدد كبير من المساهمين ليحل محلها شركات مساهمة عامة تملكها الدولة، وأصبح محظوراً بيع وشراء العملات الأجنبية والتعامل بها أو بالليرات الذهبية، وفقاً لرئيس اتحاد غرف التجارة، رغم أنه في تلك الفترة وضع عدد من رجالات التجارة والاقتصاد مشروعاً لبناء البورصة السورية، إلا أن المشروع لم يتمخض عن شيء، بل حفظ في الأدراج بعد أن اجتاحت رياح التأميم سفن الشركات.
وبعد ثلاثين عاماً من عمليات التداول وانتشار ثقافة الأسهم، توقفت العملية، ليستمر الحال على ما هو عليه حتى صدور القانون 22 لعام 2005 والذي تم بناء عليه إحداث سوق دمشق للأوراق المالية وأصبح بيع وشراء العملات متاحاً ضمن ضوابط ونظم معينة.