"أنى لي أن أقول أكثر من ذلك، قصائد، نافذة للأمل، فسحة للتذمر، سيدتي، لا تذبحوا الماء، روضة القطوف، ألا ترونه" وغير ذلك الكثير هي عناوين لمجموعاتٍ شعرية للشاعر أحمد كامل الخطيب، بدأها سنة (1978)، في إصداراتٍ متتالية، وكأن هذا الرجل الذي غادرنا منذ شهرٍ وبعض الشهر؛ كان على سباقٍ مع هذا العمر – اللمحة لأن يقول كلَّ ماعنده قبل الوصول إلى خطِّ النهاية..

غزارة في النتاج الشعري

في أحيانٍ كثيرة كان هذا "الفيض" الشعري عند الخطيب يذهب صوب أجناس إبداعية أخرى، كما في القصة القصيرة، والرواية.. حيث صدر له: "أحمد كامل الخطيب يُحاول دخول موسوعة غنيس، وشيء يُشبه الكذب، وهستريا المعنى، إضافةً لما قام به من صياغاتٍ شعرية مع المترجم أحمد ناصر، في ترجمة بعض التجارب الشعرية العالمية إلى اللغة العربية، منها: نجمة داغستان، وقصائد أخرى.. حمزاتوف، وسوسنة الوادي الأولى.. أفانسيفيت، ومختارات من شعر بوشكين.. غير أن صوته الأعلى بقي صوته في الشعر طول معاصرته هذه الحياة، وانهماكه بشواغل شعرية غالباً ما ذهبت صوب حالاتٍ وجدانية ووجودية.

"ولدتُ فرداً

أضحيتُ وطناً

بزغتُ واحداً

في أرضٍ يباب.."

البداية من ضيعة الشعر

هنا في (الملاجة) ذي الصيت الواسع، والسمعة الشعرية العطرة.. من ذلك الريف الأخضر لطرطوس، كانت المشاهد البصريةالأولى لرؤى الحياة للشاعر أحمد كامل الخطيب، بجوار أبناء قرية ينظرون للشعر بمهابة تشبه التقديس والتبجيل. فمن هذه القرية وجوارها التي تحتضنها السفوح وقمم تشهقُ حتى الغيم وعيون ماءٍ تنبثق من الصخور حتى في هواجر الصيف، هنا حيث كلّ ما في المكان يدعو كل مائدة الشعر، وقد سبقه كثيرون في هذا المكان يتلمسون طريق القصيدة من عميد الشعراء فيها: أحمد علي حسن، إلى الشاعر محمد عمران، ومن هم من زامنه في نهل القصيدة من بريتها الأولى: علم الدين عبد اللطيف، حيّان حسن، رشا عمران، ورولا حسن، وآخرون كثر.. وغيرهم من غير الشعراء كالفنانين في التشكيل والمسرح والعتابا والميجنا.

الشاعر محمد خير داغستاني

وحول علاقة الملاجة بهويته الشعرية ذكر الخطيب مرة: "هي قريتي وهي كتلة العشق والحذاء المنخور، وتُمثّلُ هذه القرية مدينتي، وعالمي، والقرى والمدن، والعواصم الممتدة من البحر إلى البحر منخورةٌ هذه المدن ومحشوة بالياسمين والنرجس والحبق والزهر البري، وما فاحَ من عطرٍ وأريج.. ويختم: أنا المنخور أكثر من الورود والكتابة.. أحبُّ هذا النخر، وأحبك أكثر أيها الإنسان والأخيرة تشهدُ له فيها قصائده التي يُهديها لعشرات الأصدقاء، حتى كأنَّ دواوينه أقرب ما كانت إلى "الإخوانيات" في هذا الاختزال الشعري الذي لن يُعادلهم، أو يُجردهم لنصّ شعري، أو تحويل الأصدقاء لقصائد من الشعر الخالص.

"هنا..

حيث لا يوجدُ مساحاتٍ

لما نُحبّ؛

إنما لكلِّ قضيةٍ هامش..

هامشٌ للصدق،

هامشٌ للجرأة..

وهامشٌ لزراعة الورود.."

شاعر لا يمل العفوية

الشاعر أحمد كامل الخطيب، وعبر عشرات المجموعات الشعرية؛ كان لايملُّ، يعود دائماً إلى دفاتره القديمة لينقل تلك المقاطع – وكما يذكر- حسب تسلسل كتابتها الزمني دون تعديل أو إضافة، وهذه المقاطع هي استمرار لتجربته في حقل الكتابة – كما يقول- حيث يتمنى على القارئ أن يتحمّل هذه العفوية والفجاجة والخطابة كما يُسميها، تلك التي اعتاد عليها، ويستطيعُ بلعها بلا ماء..

الشاعر أخمد علي حسن

"البلادُ

الكاتب مفيد خنسة

مساحات لما نكره..

وهوامش

لما نحب،

وها نحن

هامش الممكن

لنحقق

مساحات مانحبُّ..".

مفرط في العفوية

تجربة الخطيب برأي الشاعر محمد خير داغستاني

وإذا ما فتشنا في حقائب الأصدقاء عن هدايا لمحمد كامل الخطيب، فهذا الشاعر محمد خير داغستاني يقول: الخطيب عفوي لدرجة أنك لن تنتبه أنه شاعر مهم وأديب، وهو يهرب من رسميات الأجواء الثقافية لا بل يسخر - بتحبب – منها.. فلم يهتم يوماً بالوسط الشعري، ولا الثقافي عموماً.. مع أنه كان يزور الجميع ويبادلهم الحب.

هذه الإجابة من داغستاني والتي تشي بمفارقة في سلوك شاعر يوضحها بالقول: "لي رأيي الخاص في توضيح هذه المفارقة بأنه كان لدى أحمد عناد كبير في ألّا يعرض قصائده، مع أنه كان يكتب بولعٍ خاص ربما لا يضاهيه شاعر في هذا الولع، وأعتقد أننا جميعاً لم نفهمه كما ينبغي؛ كان شاعراً مهما جميلاً وعفوياً وحساساً إلى درجة جعلته ينأى بنفسه عن الاستعراض أو طرح اسمه ونصه على عتبات الصحف أو النقاد أو الشعراء أو محبي الشعر، كأنه كان يقول للجميع بحضوره في كل الأوساط: أنا هنا وحسب.

"في المسافة

بين لونين؛

بين مانحلمُ به،

وما نحن عليه؛

نحسُّ الخطا..

وجهك الدليل،

والبسمةُ أنا.."

في جعبة داغستاني الكثير من المواقف عن أحمد كامل الخطيب والتي يتذكرها الآن ببسمة مع حزن، بعضها جميل وبعضها طريف أو غريب، ففي جلسة جمعتهما بصحبة الإعلامي الأديب الراحل محمد حسين، ورطه الخطيب في كتابة نص مشترك طويل،ثم فاجأه بطباعة النص في كتيبٍ صغير جداً وعليه أسماؤنا ثلاثتنا تحت عنوان (مزاح مع امرأة على شفا الأربعين)، ومرة أشرك

عدداً لابأس به من الشعراء والأدباء في كتابة رواية مشتركة كما أسماها، وطبعها

تحت اسم (هستريا المعنى وال ...).

خلاصة القول عاش أحمد كامل الخطيب الشعر بقدر ما كتبه وربما أكثر مما كتبه، كان يكتب نصه بعباراتٍ بسيطة، وجمل رشيقة.. لكنه يفاجئنا دائماً بصورةٍ شعريةٍ رائعة هنا، وبقفشة معنوية هناك، وبشطحةٍ رؤيوية غالباً ما تأتي في نهاية النص..

"أيها المبدعون

أيها الواهمون

لم تحلمون؟

عندما يصبُّ

الماءُ الباردُ

على أفكاركم

وضمائركم.."

الشاعر مفيد خنسة: كان الخطيب مفرطاً في البساطة والعفوية

ومن جملة الأصدقاء أيضاً؛ يقول الشاعر مفيد خنسة عن التجربة الشعرية لأحمد كامل الخطيب: إنه مُفرط في البساطة والوضوح والعفوية؛ مفرط في الصدق والشفافية والمباشرة.. مفعمٌ بالحبِّ للحياة؛ إنه مكتوٍ بجمر الخيبة والألم والانكسار، وهو في الوقت ذاته يضجّ بالتفاؤل والأمل؛ مقبلٌ على الحياة حتى الامتلاء؛ منزوٍ إلى درجة الوحدة.. هكذا كان وهكذا شعره.. إنه مركب تناقضات.. حيث أدقّ تفاصيل الحياة اليومية مؤهلة أن تكون موضوعاتٍ شعرية.

ولكن الخطيب أيضا بحسب خنسة موغل في تحري القضايا الكبرى المتعلقة بالمصير الإنساني بوصفها موضوعات شعرية أيضاً.. فيما اللغة لديه هي بنت الحياة والتجربة يستخدمها بكلِّ جرأةٍ وشجاعةٍ ليكسر المألوف، ويكون صادقاً مع ذاته..

"تقولُ قصيدتي:

من الباب الواسع

للسهل الفسيح؛

أدخلُ عالمَ قصيدتي

هادئاً هانئاً

على البارد المستريح.."

وأختم هذه المدونة عن تجربة أحمد كامل الخطيب الشعرية والإنسانية بما قاله فيها عميد شعراء الملاجة الشاعر أحمد علي حسن حيث يقول: رغم أنني"لستُ من عشاق الشعر الحديث، ولكني أعشق الأدب في سائر أشكاله، وأنواع مظاهره، ولاسيما إذا كانت له دلالات ترشد القارئ إلى السمو، وترتفع به إلى الأماكن القصية في عالم النجوم.. وهذا ما وجده الشاعر حسن في تنويعات أحمد كامل الخطيب الشعرية..