شاعر يحتفي بالمكان ويقرؤه كنص مستقل وصعب جداً، وربما من أهم النصوص التي كتبها تلك التي حاولت تفكيك المكان أو استرجاعه لها على نحو فريد وجديد، هو يكتب نصوصاً تشرح طبيعة العالم الذي يهرب إليه بعيداً عن هذا الواقع، لذا تراه يرفض أن يقال عن شعره إنه نخبوياً، فقط هو يبحث عن ضفاف شعرية ما زالت عذراء.

مدونة وطن eSyria وفي 10/11/ 2012 التقت الشاعر والصحفي "زيد قطريب" لتتعرف منه أكثر عن هواجسه الأدبية والإنسانية.

لم يترك الشاعر "زيد" مجالاً لقصائد النواح وامتداح الغُياب والزمن الغابر، للتكاثر في جسد الديوان، للوهلة الأولى، قد تبدو بعض القصائد كذلك، خصوصاً تلك التي تستعيد لحظات الطفولة وحنان الأم، لكنّه يقطع الطريق على هذا الظن، إن كان بكَسْر فصاحة النص ببعض العبارات العاميّة المشحونة بحميميّة الأمس، أو بعبارات و"كليشيهات" متداولة تبتعد عن الشعرية، أو بكسر التقليد السائد في قصائد "النوستالجيا" العربية من خلال قلْب الدلالة الشعرية رأساً على عقب

  • ما الدلالات التي يقدمها عنوان أي ديوان للقارئ، وهل "باركنسون" عنوان يحاكي مرحلة أو حالة ما، أم ماذا؟.
  • الشاعر "زيد قطريب"

    ** عناوين الكتب هي شخصيتها ولون عينيها ورائحتها النفاذة، التي غالباً ما يجهد الكاتب وربما يتردد في انتقائها وربما يضطر إلى تأجيل صدور الديوان بانتظار القبض على عنوان مناسب، في جميع الأحوال فإن شيئاً من العناوين الكلاسيكية كان قد طغى على مرحلة ما في السابق، وربما يكون أسوأ العناوين هو عناوين المبتدأ والخبر وجميع الصيغ الإنشائية التي قد تظلم مضمون الكتاب إلى حد بعيد.

    ويتابع: بالنسبة لكتابي "باركنسون" فهو يحمل عنوان إحدى القصائد داخل هذه المجموعة المكتوبة أصلاً بذائقة حاولت فيها الانحياز إلى لون من البساطة بعيداً عن التعقيد أو فك طلاسم الكلمات المتقاطعة التي تخفف من الشعرية كثيراً، "باركنسون" هي حالة من الجنون تصيب الكلمات في لحظة من لحظات الكتابة أو الانفعال، وهو يحوي الكثير من السخط على العناوين الكلاسيكية التي أشرنا إليها، كما أنه يؤكد مقولة وجود الشعرية حتى في هذا النوع من الألفاظ الذي يثير حفيظة الناس أو أحيانا استهجانهم، فنحن بحاجة فعلاً لاقتراف شيء مختلف حتى على صعيد قطع الورق وشكل الإخراج في الديوان الشعري والعناوين، والأهم من ذلك كله في مضمون الكتاب الذي هو صاحب الكلمة الفصل في نهاية الأمر.. وللإشارة فإن "باركنسون" كان قد صدر قبل نحو عام من اليوم أما نصوصه فمكتوبة قبل هذه المرحلة التي نمر فيها.

    أثناء توقيعه ديوانه الأول

  • إلى أين تنوي أن يوصلك الشعر؟
  • ** لا يقرر الشاعر سلفاً إلى أين يمكن أن يوصله الشعر.. إنها عملية احتمالية غرائبية تشبه المغامرة، فهي ملأى بالتجريب وصناعة الكلمات وإعادة خلقها من جديد بشكل بهيّ ومدهش، الشعر نوع من التأقلم مع الواقع بصناعة واقع مواز ومختلف عنه جذرياً، تلك العملية تنطوي على الكثير من الهدم والنسف بقدر ما فيها من إعادة البناء والترتيب، لذلك فإن الحسم بنتائجها مسبقاً لا يمكن حدوثه قبل انتهاء التجربة الشعرية بشكل كامل، فالشعر ليس رحلة أو طريق سفر يمكن أن نحدد ماهية المحطات التي سيأخذنا إليها، فالانعطافات الفجائية واردة في أية لحظة، كما أن حساسية الشاعر ورؤيته يمكن أن تتسبب في تغيير الخط البياني إذا ما تصورنا وجود خط من هذا النوع، العملية مزيج من الخلق والصناعة والمهارة في الأساليب والأهم من ذلك هي استشراف يختلف تبعاً لشخصية النصوص التي تكتب في كل مرحلة.

    غلاف ديوانه الأول

  • لحظة الخلق الشعري، كيف تقتنصها وتترجمها إلى قصائد؟
  • ** الموضوع يرتبط بأسلوب التلقف والفهم وكذلك التأثر بالمحيط، فالشاعر لا يعيش حالات فصام بين لحظات الكتابة وما يسبقها من مشاهدات، شخصية الشاعر تحضر في جميع مفرداته اليومية، لكن لحظة الخلق الشعري أو الكتابة تأتي بعد سلسلة انفعالات وتحليلات ومشاهدات تختمر كلها داخل عقل وروح الشاعر ليقوم لاحقاً بسكبها على الورق بالشكل الذي يشتهي أو يحب، تلك العملية تحدث مرات بلحظة ودون سابق إنذار، وتخضع مرات لتحريضات كثيرة تشحذ الحالة الشعرية وتجعلها أكثر مضاء وقوة في التعبير.. هنا يمكننا الحديث عن خصوصيات كثيرة لدى الشعراء في لحظات الخلق الشعري، أما بالنسبة إلي، فالشرط الأهم أن أكون وحيداً أثناء الكتابة لأن العملية مرتبطة إلى حد كبير بالجنون، وبالتالي لا يمكن للآخرين تقبلها ربما أو استيعابها بالشكل المطلوب، أو ربما يؤدي وجودهم إلى الفتك بتلك اللحظات التي يلزمها الكثير من الخصوصية..

  • ماذا يشكل الإنسان في قصائدك؟
  • ** لست شاعر الإنسان، ولا شاعر الغزل، أو الليل أو الحب أو ما شابه من مصطلحات، أنا أكتب نصوصاً تشرح طبيعة العالم الذي أهرب إليه بعيداً عن هذا الواقع، صحيح أن هناك الكثير من الأفكار في هذا العالم الجديد، لكنني عبرها أحاول أن أمارس نوعاً من الكشف بغية الوصول إلى ضفاف عذراء لم تطأها قدم إنسان من قبل، ربما هذا سيعني في نهاية الأمر فائدة للإنسان بشكل عام، لكنني شخصياً لا أعتبر نفسي بوصلة لأحد أو أستاذاً يمكن أن يرسم الطريق للآخرين، أنا أكتب نفسي وأسلوب رؤيتي لهذا العام الذي أحاول أن أبنيه كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، أما ما تبقى فالآخرون متكفلون به عند قراءة هذه النصوص المجبولة بأشياء مجهولة لا أعرفها حتى أنا شخصياً، فالعملية ليست علم رياضيات كما أسلفنا، بل إنها مرتبطة بالجنون فحسب!.

  • من الشريحة المستهدفة بكل ما كتبت وتكتب؟
  • ** لا يوجد شرائح ولا طبقات أو نقابات مستهدفة في شعري.. أنا المستهدف فقط!.

  • هل الشعر الموجه للنخبة المثقفة يمكن له أن يعيش طويلاً؟
  • ** لا يوجد شعر موجه للنخبة، هناك شعر فحسب، ربما يميل أسلوب بعض الشعراء إلى الفلسفة والتفكير على حساب الانفعال، لكن هذا النوع من الكتابة يبقى شعراً بغض النظر عن شخصية النص الأسلوبية والبنيوية.. شخصياً لا أحب التعقيد و"التلغيز" في كتابة الشعر، فهو دليل ضعف في معظم الأحيان.. الشعر عماده الصورة، فهي المقياس على رفعة الشعر أو وضاعته، ونحن في جميع النصوص الشعرية علينا البحث عن الصورة قبل كل شيء فهي المقياس النهائي وصاحبة الكلمة الفصل!.

  • ماذا قدم لك العمل الصحفي على صعيد الشعر؟
  • ** ربما نستطيع عكس السؤال تماماً، فأنا شاعر قبل أن أكون صحفياً، لذلك فإن الشعر هو من قام بتقديم الكثير لكتاباتي الصحفية وأسلوب رؤيتي وتعاملي مع كتابة المقالات والزوايا.. لكن هذه العملية المزدوجة بين الصحافة والشعر، ساهمت إلى حد بعيد في تغذية موضوع البساطة والاشتغال على الصورة كأولوية في النصوص التي أكتبها، فالموضوع لا يتعلق باستعراض عضلات لغوية نهائياً، إنما هي لحظة من المهارة والانفعال والقبض على كل الأشياء التي لا ينتبه إليها أحد من أجل بلورتها وإعادة خلقها من جديد.. في هذه العملية نحتاج أن نطلق السهم في منتصف الدريئة تماماً، ولا نتورط بالتالي في الإبهام الذي كما قلت سابقاً يشكل عامل ضعف في الشعرية.. الصحافة والشعر تبادلا التأثير، فزدت قناعة بضرورة أن يقوم الكتاب بوضع الإصبع مباشرة فوق الجرح!.

  • أنت الابن الأكبر للغوي كبير، ماذا أخذت من والدك الراحل "حسن قطريب"؟
  • ** أبي، رحمه الله، له الفضل الكبير في تأسيس الخزان المعرفي والثقافي وموضوع التعلق بالقراءة لدي، ففي مكتبته اطلعت على أمهات الكتب في وقت مبكر، كما حضر موضوع الاعتناء بسلامة اللغة كعامل مهم في صناعة نص بهي وشهيّ، فالواضح أن النص الهزيل وغير القابض على أدواته جيداً، لن يتمكن من الوصول إلى مآلات مختلفة ومؤثرة فعلاً.. هناك الكثير مما يمكن التحدث عنه في هذا الإطار فأنا أخذت اللبنات الأساسية التي أثرت بشكل كبير في شخصية النص لدي، سواء من الناحية الأسلوبية أو غيرها، وربما من أهم النقاط التي أركز عليها دائماً بفعل هذا التأثر أو هذه البيئة، هي اللغة السليمة، فنحن يمكننا أن نكتب نصاً بسيطاً وغير معقد، لكن بلغة سليمة لأن اللغة من أهم مواصفات شخصية النص!.

  • ما الأسلوب الذي أردته مميزاً عن غيرك من الشعراء؟
  • ** البساطة والمراهنة على الصورة كعامل حاسم في تحديد هوية النص.. الصورة هي عماد البيت ورافعته ودليل ارتقائه إلى أعلى!.

  • ما رؤيتك لواقع الثقافة والمثقفين في سورية؟
  • ** الثقافة هي دائماً أضعف الأطراف في المعادلة، رغم الأثر الهائل الذي تحدثه، لكن تبقى في نهاية سلم الأولويات عند المؤسسات المختلفة، جميعاً نطمح إلى دعم الكتابة والكتاب بالشكل اللائق بهم، مثلما نطمح إلى وسائل إعلام حديثة ومواكبة تفتح أمام الجميع الآفاق.. ما يمكن الحديث عنه في هذا الجانب أكثر من أن يحصى، وربما تختزله جملة واحدة: أتمنى ألا يموت الشعراء على قارعة الطريق مثل الغرباء!.

  • ما تقييمك لواقع الشعر في سورية؟
  • ** لـسورية الدور الأعظم في إشادة مملكة الشعر العربي، واليوم هناك الكثير من التجارب المختلفة والجديدة التي تبشر بمراحل لاحقة يتبلور فيها جيل جديد من الشعراء الشباب.. صحيح أن مقولة "كثر الشعراء وقلّ الشعر" واقعية جداً، لكن من يتابع الكتابات الشابة وغير الواقعة تحت دائرة الضوء، يكتشف أن مخاضاً كبيراً يحدث في أفق المشهد الشعري سنرى نتائجه لاحقاً، لا أحب حملات الندب والولولة على الشعر أو الكلام عن مآزقه الكبيرة أو حتى موته، ففي كل عصر سنجد من هم مشغولون ببناء مجد الشعر، حتى وإن تأخر الوقت!.

  • لغة الشعر هي على الضد من لغة النثر ومن اللغة العادية، فهل حاولت المقاربة بينهما في شعرك؟
  • ** لا يوجد لغة خاصة بالشعر، فالشعرية موجودة في كل شيء حولنا، حتى المفردات المهملة التي يهرب منها الجميع، فيها قدر كبير من الشعرية، لكن من يكشفها ويعلي من شأنها هو الصورة الشعرية، لذلك فإن المعجم اللغوي مفتوح بأبوابه كلها أمام الشعر، الشعر يخلق العالم من جديد، فكيف لا تكون له حرية استخدام العبارات كما يشتهي؟ هي عملية معيارها الذائقة الجمالية والنقدية ومدى القدرة على افتضاض الآفاق، وما تبقى هو مجرد تفاصيل.. شخصياً لا أكتب بناء على أوزان أجدادنا القدماء لأن العصر انقلب جذرياً اليوم، وبات علينا البحث عن علامات موسيقية مختلفة عن الشكل الصحراوي الذي وفد إلينا في بحور الخليل، الشعر السوري لابد أن يعيد اختراع أسلوبه السوري الفذ بناء على بيئته وروحه وعقله.. فالسوريون تمكنوا من كتابة أول نص شعري في التاريخ، لكنهم للأسف وقعوا لاحقاً تحت نوع من الاستلاب الشعري نتيجة عدة عوامل لا مجال لذكرها.. من يعود لقصائد ما قبل الميلاد يكتشف براعة السوريين الشعرية وذائقتهم المختلفة عن حداء العيس!.

  • ما مدى تأثير المكان في قصائدك، وأي الأمكنة التي تستهويك للإبحار في تفاصيلها؟
  • ** للمكان شخصية تشبهنا، حتى الطاولات لها عيون وأصابع يمكن أن تشعر بها.. للمكان ذاكرة ورائحة وعيون تحدق بالعابرين.. المكان حاضر بقوة في نصوصي، وربما تكون أمكنة الطفولة الأولى التي عشتها في مدينتي النائية "سلمية"، هي من يصنع هذه النصوص التي أكتبها اليوم.. أنا أحتفي بالمكان وأقرؤه كنص مستقل وصعب جداً، وربما من أهم النصوص التي كتبتها تلك التي حاولت تفكيك المكان أو استرجاعه على نحو فريد وجديد.. في نصوصي هناك أرصفة معينة، وشوارع بعينها، وهناك أشجار سرو وكبّاد ونارنج وأكاسيا.. هناك أمكنة موغلة جداً تتقاطع مع الأمكنة التي أعيشها اليوم، لكن السحر الكبير يظل دائماً لأمكنة الطفولة التي أحفظها عن ظهر قلب!.

    * ما جديدك؟

    **هناك الكثير من الشعر الذي ربما نفتتح به السنة المقبلة بكثير من الأمل!.

  • ختاماً.. هل أنت شاعر نخبة؟
  • ** لا.

    الإعلامي "محمود الحاج محمد" تحدث عن أسلوب الشاعر "زيد قطريب" في ديوانه "باركنسون"، حيث قال: «لم يترك الشاعر "زيد" مجالاً لقصائد النواح وامتداح الغُياب والزمن الغابر، للتكاثر في جسد الديوان، للوهلة الأولى، قد تبدو بعض القصائد كذلك، خصوصاً تلك التي تستعيد لحظات الطفولة وحنان الأم، لكنّه يقطع الطريق على هذا الظن، إن كان بكَسْر فصاحة النص ببعض العبارات العاميّة المشحونة بحميميّة الأمس، أو بعبارات و"كليشيهات" متداولة تبتعد عن الشعرية، أو بكسر التقليد السائد في قصائد "النوستالجيا" العربية من خلال قلْب الدلالة الشعرية رأساً على عقب».

    الجدير ذكره أن الشاعر "زيد قطريب" من مواليد 1968 "سلمية"، محرر في القسم الثقافي بجريدة تشرين، مسؤول صفحة إبداعات الشباب، مدير تحرير جريدة النهضة الشامية، لديه كتاب شعري واحد بعنوان "باركنسون".

    ـ مقطع من قصيدة "مديح القطيعة" المضمنة في ديوان "باركنسون" الصادر عن دار التكوين – 2012:

    «... لا تصنعي القهوة هذا اليوم/ فأنا لست حبيبك العائد من المقهى/ وأنت لست الأميرة التي تطلُّ من أعلى/ كي تقبّل عيون أورليانوس/ العائد من الحرب/ لا تعشقي البلاهة أكثر/ وإن شئتِ لا تحتفلي بعيد ميلادي/ في ليلة السابع من تموز/ سوف أتصل بجميع الصيدليات/ كي ترسل مضادات كسر الخاطر/ فلا تتعبي نفسك بعد السابعة مساءً/ لن يجدي كل أدرينالين العالم/ في وقف هذا الخراب/ لن أرثيكِ كما يجدر بربّاتِ العشق/ سوف أنهال بفأسي/ فوق مملكتك التي تصفرُ فيها الريح/ ثم أعود إلى كوخي كأنني أولد من جديدْ...».