في وسط الحارات الشامية الضيقة بالمكان، الواسعة في المعنى، وفي قلب الزقاق العتيق، يصعد النظر عالياً نحو غرفة صغيرة تتخذ من بيتين متقابلين مسنداً كأنه جسر، وممر آمن نحو حياة زوجية سعيدة لعروسين في مقتبل العمر، خبأ لهما القدر أمتاراً صغيرة ليفتحا من خلالها طريقاً واسعاً نحو الحياة.
"عيرني كتفك"، هي العبارة التي يتوجه بها رجل دمشقي يقطن في إحدى الحارات القديمة، إلى جاره عندما يقرر ابنه البكر الزواج، ولا يوجد له مكان خاص للإقامة في منزل العائلة، وهو ما يتطلب توسيع المنزل ليحتوي غرفة صغيرة تتوضع بين بيتين، وتعلو الزقاق الصغير بينهما.
تتناثر البيوت الدمشقية على جوانب أزقة ضيقة، مسندة أكتاف بعضها إلى بعض، ومتلاصقة نتيجة ضيق المساحة؛ بيوت مبنية من الطين والحجارة، بهندسة بسيطة وتكوين دقيق وتصميم فريد ناتج عن قرون من فن العمارة الإسلامية، فاتحة أبوابها الكبيرة للدخول عبر باب صغير في وسطها يسمى "الخوخة"، وقد حافظت على متانتها بسبب اهتمام أصحابها فيها، فألبسوها كسوة من زخارف نباتية وهندسية، واعتنوا عناية شديدة بالفضاءات والفراغات، ومع أن عدداً كبيراً من السكان قد انتقلوا للعيش في أماكن مختلفة من "دمشق" وضواحيها، إلا أن بعض هذه البيوت ما زالت قائمة، واستثمرت استثماراً كبيراً، وباتت من المعالم السياحية المهمة في "دمشق"، وتحول الكثير منها إلى مطاعم وأماكن لإقامة السياح، وكذلك استفاد منها صنّاع الدراما في إظهار البيئة الشامية
مدونة وطن "eSyria" دخلت الأزقة الضيقة في حي "القيمرية" بتاريخ 5 كانون الثاني 2018، والتقت "سمير عبد السلام" القاطن في الحي، الذي تحدث عن هذه العادة القديمة بالقول: «هي نوع من أنواع التكافل بين الجيران والأهل في حارات "دمشق" القديمة، وهذا المثل الشائع بين الدمشقيين، يعود بحسب كبار السن إلى مئات الأعوام، ومنهم من يؤكد أنه جرى تداوله زمن الاحتلال العثماني الذي امتد أربعمئة عام من الحروب والتعسف والفقر والتجنيد الإجباري، فكانت الحاجة تفرض على الناس أن يكونوا على درجة عالية من التعاضد والوفاء. وكانت البيوت ملاصقة بعضها لبعض، ولا يفصل بينها سوى زقاق يتسع ويضيق حسب موقع الحي وطبيعة سكانه.
ويظن الناس أن أحد الرجال قرر تزويج ابنه البكر، لكنه اصطدم بضيق منزله وعدم قدرته على (كري) منزل مستقل لولده، ففكر ببناء غرفة مستقلة على سطح المنزل، لكن المكان كان ضيقاً، ويحتاج إلى بضعة أمتار إضافية، وهو ما يتطلب أن يأخذ الزقاق وموافقة الجار المقابل، وعندما ذهب إلى جاره لم يستطع شرح ما بداخله، فخرجت منه عبارة: "عيرني كتفك"، وكان الجار يعلم وجعه وعدم قدرته على تأمين منزل لولده، فقال له على الفور: (عرتك)، فكان جدار المنزل المقابل الكتف الذي حمل غرفة العروسين. وعلى الرغم من بساطة البناء، إلا أنه شكل حالة هندسية جميلة وفريدة في الوقت نفسه، فقد باتت أقواس هذه الغرف تشبه أقواس النصر».
الموظف المتقاعد "فوزي عقل" المولود عام 1943 في حي "القيمرية"، والحرفي العتيق بفن الزخرفة، تحدث عن الغرفة بتفاصيلها الصغيرة، ويقول: «تبنى على جدارين متقابلين من الحجارة المشذبة التي تنتهي بقوسين صغيرين، وتسمى في أماكن كثيرة من "سورية" "القناطر"، لكن هنا يقوم معلم البناء برسمها حجراً حجراً حتى تلتقي بوسط الزقاق على شكل قوس، وتختلف عن القنطرة بنوع الحجارة وكبرها. والناظر إليها من بعيد يظن أنها جسر بين بيتين. وما يميزها من الخارج تلك النافذة الخشبية الطويلة التي تظهر على الزقاق مباشرة بشكل طولي، وهي المنفس الوحيد للغرفة. أما جدرانها، فكانت في الماضي تصنع من الطين والحجارة، وتتميز من الداخل بالبساطة، ويمكن لصاحبها أن يزينها بالنقوش البسيطة أثناء (تلييسها) أو دهنها، ويكون بابها الوحيد مطلاً على أبواب غرف النوم للمنزل في الطابق الثاني في حال كان المنزل كبيراً، أو يصنع له درجاً مستقلاً من (أرض الديار)، وبعد انتهاء الغرفة تصبح جزءاً من المنزل الدمشقي القديم الزاخر بالفن والهندسة الإسلامية الفريدة. والملاحظ أن صاحبة المنزل مجبرة على استخدام مطبخ العائلة لإعداد الطعام والشراب، لأن الغرفة لا يتبعها شيء آخر بالبناء، وهو ما يزيد الألفة والمحبة بين "الكنّة" الجديدة وأهل المنزل، أو العكس في حال عدم الاتفاق».
وعلى الرغم من التطور الحضاري والعمراني المتسارع، إلا أن البيوت الدمشقية حافظت على رصانتها على الرغم من مئات السنين التي مرت عليها، حيث يتابع "عقل" الحديث عما تركته هذه البيوت، وما حلّ بها: «تتناثر البيوت الدمشقية على جوانب أزقة ضيقة، مسندة أكتاف بعضها إلى بعض، ومتلاصقة نتيجة ضيق المساحة؛ بيوت مبنية من الطين والحجارة، بهندسة بسيطة وتكوين دقيق وتصميم فريد ناتج عن قرون من فن العمارة الإسلامية، فاتحة أبوابها الكبيرة للدخول عبر باب صغير في وسطها يسمى "الخوخة"، وقد حافظت على متانتها بسبب اهتمام أصحابها فيها، فألبسوها كسوة من زخارف نباتية وهندسية، واعتنوا عناية شديدة بالفضاءات والفراغات، ومع أن عدداً كبيراً من السكان قد انتقلوا للعيش في أماكن مختلفة من "دمشق" وضواحيها، إلا أن بعض هذه البيوت ما زالت قائمة، واستثمرت استثماراً كبيراً، وباتت من المعالم السياحية المهمة في "دمشق"، وتحول الكثير منها إلى مطاعم وأماكن لإقامة السياح، وكذلك استفاد منها صنّاع الدراما في إظهار البيئة الشامية».