ترسم على لوحاتها إطاراً من الدهشة والقوة عبر ضربات من الألوان الجريئة، وتعبر عن طقوسٍ روحيةٍ، وتعكس مزاجاً نفسياً صافياً يرافقه بوح شعري يتناغم مع شغف اللوحات.
مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع الفنانة والشاعرة "دارين أحمد" المقيمة في "برلين" منذ سنوات، بتاريخ 18 شباط 2018، فحدثتنا عن الرسم وعلاقتها معه: «الرغبة بالرسم حاضرة فيَّ منذ زمن طويل، حيث لكل واحد منا مُتخيَّلٌ عن ذاته، وهو متخيل مستمد من مشاهدات الفرد ورغباته، متخيلي عن ذاتي، منذ زمن بعيد؛ أي منذ تكوّن وعيي الفردي، كان في حضوري أمام اللوحة البيضاء، وما زلت حتى الآن وبعد رسم الكثير من اللوحات أجد متعة فريدة في تأمل اللوحة قبل الشروع في الرسم. فالفن انعتاق من أسر جبرية الواقع وأشكال حضورها في حياتنا وخيالنا، وهذا يظهر بوضوح في الرسم أكثر من الكتابة؛ لأن البصر واللون سابقان للفكر واللغة. بدايتي الفعلية في الرسم حدثت في نهاية عام 2014، عندما سمحت لي الظروف بتخصيص غرفة في البيت له؛ إذ ليس لدي مرسم بالمعنى المتعارف، وهذا خيار يمنحني حرية التنقل بين أولويات العائلة والرسم والعمل والقراءة بالأسلوب الأنسب، وأفضّل من المدارس الوحشية والتعبيرية».
لا أؤمن بوجود حرية من دون قيود، حتى درجة الحرية الأكبر التي تعامل معها مبدعون كثر كانت مقيدة، المسألة هي في القيد ووعي الفنان به، وليست في وهم ما يسمى الحرية من دون قيود
وحول مصادر وحيها وطريقة التعامل معه، قالت: «أستوحي أعمالي من خيالي وقراءاتي ومن الواقع، فكل شيء حي أو ميت هو مصدر وحي في وقت مناسب. علاقتي مع لوحاتي حية ومتحولة؛ أي على الرغم من وجود فكرة عامة أو خط عام أعمل ضمنه خلال رسم اللوحة، إلا أن اللوحة تحدث أثناء الرسم، والشخصية فيها تقرر ماذا تريد أن تفعل».
وعن الحرية في الفن، قالت: «لا أؤمن بوجود حرية من دون قيود، حتى درجة الحرية الأكبر التي تعامل معها مبدعون كثر كانت مقيدة، المسألة هي في القيد ووعي الفنان به، وليست في وهم ما يسمى الحرية من دون قيود».
وعن تأثرها بفنانين آخرين، قالت: «لا أستطيع أن أجزم أنني تأثرت بفنان معين، بل بلوحات أحدثت أثراً في ذاكرتي. وقد رسمت مرةً لوحة بعنوان: "شبكة الصيد"، وهي تشكيل بصري لأجساد بشرية موزعة ومتراكمة بما يشبه تراكم السمك في شبكة الصيد، وكانت لديَّ فكرة رسم عدة لوحات من النمط ذاته لأكتشف بعد مدة أن جو اللوحة قد رسمه سابقاً "ويليم كوننغ" في لوحة "Excavation"، ولو أنني لم أنشر اللوحة وأتفق على عرضها في مقر جامعة "كيرون" في "برلين"، لاحتفظت بها لنفسي فقط. ما أعنيه، أن التأثر إن وجد، فهو غير مقصود، لكن بالتأكيد هناك الكثيرون من الفنانين يسرحون في خيالي وخيال كل فنان على ما أظن».
أما حول مشاركاتها في المعارض، فقالت: «كانت أول مشاركة لي في مدينة "بون" عام 2016، بعنوان: "نقطة تلاشي"، ولاحقاً شاركت في معرض ثنائي مع الفنانة البريطانية "فرانسيس بلين"، بعنوان: "وجهان" في "لندن"، كما شاركت في معرض جماعي في "لندن"، بعنوان: "رغبة أنثوية"؛ وهو معرض مستمد من قصائد شعرية لشاعرات أندلسيات وعربيات، كما قمت بعرض عدد من اللوحات في جامعة "كيرون" في "برلين". وكان استقبال المتابعين لأعمالي جيداً ومرضياً. أما ما أطمح إليه، فهو إحداث أثر ثوري ثقافي وفني عبر صدقي مع ذاتي والآخرين، وهو طموح كبير بالتأكيد، لكنه طموح لين إن انكسر، لا يجرح أحداً».
وعن رأيها في دور وزارة الثقافة في دعم الفنانين السوريين، قالت: «أنتظر من وزارة الثقافة الدعم المعنوي والمادي عبر إقامة المعارض، والنزاهة في اختيار المشاركين وتعريف الجمهور بالفن، والقدرة على تقبل التحديث الفني من دون محاكمات أخلاقية تقليدية».
وعن حضور الفنان السوري عالمياً، قالت: «هناك فنانون سوريون عالميون، لكن لا توجد مدرسة فنية أو تيار فني خلقه الفنان السوري أو العربي على حد علمي. في مجال الموسيقا مثلاً يوجد تراكم تاريخي أسس لحضور الموسيقا الشرقية في العالم؛ وهذا ما لم يحدث في الرسم والنحت، ربما بسبب أن اللوحة مفهوم غربي أساساً، يضاف إلى ذلك التحريم الذي لاحق التشخيص في تاريخنا. لدينا الخط العربي، لكن فن الخط يبقى مقيداً باللغة والتاريخ الذي قيد هذه اللغة بالدين كقيد إضافي، ولا أظن حتى الآن أنه تم خلق اتجاه فني عالمي من الخط كتجريد، على الرغم من وجود عدة محاولات».
أما عن طفولتها، فقالت: «هي طفولة شبيهة بطفولة أغلب سكان القرى السورية، تأخذ الكثير من إمكانات النفس الكامنة، وتعطي الإرادة قوة إحياء تلك الإمكانيات مرة أخرى. ما يميز طفولتي أنني الطفل الأول في عائلة كبيرة لأب وأم متعلمين؛ وهو ما وفر لي مكتبة صغيرة منوعة كان والدي قد جمع كتبها خلال دراسته».
وعن الشعر وبداياته، قالت: «الشعر أسبق من الرسم عندي، إلا أنهما مترابطان تماماً؛ هذه الأسبقية للشعر حدثت بسبب أنه لا يحتاج إلى حيز مكاني ومواد. وقد تأثرت بالشعر المترجم أكثر من الشعر المكتوب بالعربية، لكنني تأثرت أيضاً بالفلاسفة والعلماء وكل ما يلمس الغامض والمخفي في الواقع وفينا ككائنات حية. كل ما يزعزع اليقينيات له أثر عندي وأسبر عبره علاقتي الداخلية مع ذاتي والأشياء من حولي، فالشعر الذي أكتبه يشبهني كثيراً، ولغتي الداخلية في علاقتي مع الواقع هي اللغة التي أكتب بها الشعر، لكن هذا مما لا تحتمله الحياة اليومية ولغتها؛ لذلك تتوارى هذه اللغة وتظهر فقط عند الكتابة أو الرسم، وإنني شخصياً أؤمن بأن الإنسان طبقات، وإمكانية إعطاء كل طبقة حقها ميزة جيدة. لم أنشر أي مجموعة شعرية، باستثناء ديوان إلكتروني بعنوان: "مغنى إليك"، نشرته في بداية عملي في موقع "معابر". أما حالياً، فأسعى إلى أن يكون لدي وقت كافٍ لتحضير ديوان شعري لائق. حيث يحتاج الشعر إلى البطء، والزمن المتلاشي، وهذا يصعب مع ضغوط الحياة اليومية؛ لذلك يتحول الشعر ويصبح نثرات أو قصائدَ تفاصيل يومية، إلا أنه في هذا التحول لا يعطي إلا القليل من ذاته، القليل الذي يمكن أن يستقبله المرء الرازح تحت ضغوط الحياة، ويبقى حياً».
وعن تجربة "دارين"، قال الشاعر والنحات "أحمد اسكندر سليمان": «عرفت أعمالها قبل ثلاث سنوات، وكانت رغبتها واضحة بترك أثر يشبه الندبة في روح القارئ للوحاتها، فهي بذلك تعطي لوحاتها شهادة صارمة وقاسية، حيث تتعامل مع الألوان حتى الحارة منها في صيغتها الباردة،
تعمد إلى إطفائها لتنتمي إلى الجو العام، وتشير بذلك إلى كائناتها لتطلب التعاطف والحماية كما لو أنها تشير إلى أن اختناقها كان قدراً وهويةً ومصيراً، وقد كانت لوحاتها تشبه صرخات احتجاج ضد العنف أو العزلة أو الإهمال، وهي كشاعرة تضعنا أمام مواجهات متوترة وقوية عبر سرد محكم ومحاورات متمرسة ضامنة مساحة رحبة ومفتوحة للإبداع، ولعل هذا لكونها تأتي من المنطقة المشبعة بالمعنى؛ فهي شاعرة ومحاورة وقارئة مميزة قبل أن تكون فنانة».
بقي أن نذكر، أن "دارين يحيى أحمد" من قرية "عين الكروم" في سهل "الغاب" بمحافظة "حماة"، من مواليد عام 1979، وخريجة كلية الاقتصاد، قسم إدارة الأعمال، جامعة "حلب"، وتعمل ضمن فريق مجلة "معابر" حتى اليوم.