في عام 2001، كان الجمهور على موعدٍّ مع برنامج "ملفات حارّة" وبِمُعدل حلقة أسبوعياً على القناة الأرضية والفضائية السورية، إعداد وتقديم الصحفي إبراهيم ياخور "اللاذقية 1943- 2023"، والذي عدّ وقتها ولا يزال علامةً فارقة في المشهد الإعلامي المحلي، لكونه كشف عبر تحقيقاتٍ استقصائية مُصوّرة، أخطاءً وتجاوزاتٍ في مجالاتٍ مختلفة، ساهمت في توجيه الرأي العام.
محطّات صحفيّة
مشوار ياخور في ميدان الصحافة، عَرَفَ محطاتٍ كثيرة، كان في جميعها جريئاً وصبوراً، شغوفاً في البحث والتقصي.
زرته في بيته عدة مرات، لاحظت الصداقة التي اتسمت بها علاقته مع زوجته بعد 55 عاماً على زواجهما، كان رجلاً كريماً، لطالما رفض مناداته بلقب أستاذ، مفضلاً أبو البر، وهو ما يعرفه معظم من قابلوه
بدأ ياخور صحفياً في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، ومنها انتقل إلى جريدة "البعث" حيث لمع نجمه سريعاً، ثم نُقِل مع آخرين إلى وزارة الصحة، لِينضم بعد وقتٍ قصير إلى جريدة "تشرين" بُعيد تأسيسها عام 1975، مسؤولاً عن قسم التحقيقات فيها، فقدّم على صفحاتها دراساتٍ وأفكاراً، جعلته رائداً في عالم التحقيقات الصحفية، ومن ثم أمضى سنواتٍ في التلفزيون، عمل فيها مذيعاً ومعدّاً، جاء خلالها برنامجه باسمه الأول "ملفات حرة" عام 1992، في ثلاث حلقاتٍ فقط، وفي السياق ذاته، كان عمله مُدرباً في "شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية- أريج" بين عامي 2007 و2023، خطوة لنقل خبرته في الاستقصاء للزملاء من مختلف الدول والوسائل الإعلامية.
عُرِف ياخور أينما عمل، بالبحث عن الحقيقة مهما بدا الطريق إليها شائكاً لذلك حظي بشعبيةٍ واسعة بين الناس الذين قصدوه لإنصافهم ولفت الأنظار إلى معاناتهم، وهكذا كان مع زملائه ومعاصريه أيضاً، فكان حريصاً على أن ينالوا ما يستحقون في النشر أولاً، ومن ثم في الدعم والتقدير معنوياً ومادياً.
في الدراما
بموازاة ما سبق، كانت للراحل مشاركات درامية، أبرزها شخصية الأستاذ مفيد التي جسدها في مسلسل "أحلام أبو الهنا" عام 1996، إضافةً إلى مشاركته في مسلسلات "حمام القيشاني ج2"، "الأصدقاء- عودة غوار"، "الفندق"، كما شارك في سهرتين تلفزيونيتين "التحقيق: النظارة المكسورة" إخراج "محمد عزيزية، و"نهاية سعيدة" إخراج مأمون البني، وفي رصيده أيضاً تأليف ثلاثية "أمينة الصندوق" إخراج حاتم علي، ونص "أزهار الشتاء" إخراج محمد الشليان، استمده من رواية "نقود لماريا"، كذلك حصل ياخور عام 2016 على شهادة في كتابة السيناريو من "أكاديمية نيويورك للأفلام".
رائد ومبدع
الإعلامي ميشيل خياط، عاصر ياخور منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وعملا في غرفةٍ واحدة حتى العام 1975، يحكي لنا عن تشجيع الراحل للصحفيين من حوله، وجاهزيته الدائمة للمساعدة وإسداء النصح، ومع أنه خريج معهد الإعداد الإعلامي "دورة الأساتذة الألمان برئاسة البروفسور فرانز فابر"، فإن ما تعلمه من ياخور كان مهماً جداً، حتى لغوياً، فقد امتاز بلغةٍ عربية رفيعة المستوى.
يقول خياط في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": «كنّا لسببٍ أو لآخر نغادر الغرفة، نستقبل الضيوف، نذهب للغداء، ونعود للدوام الثاني حتى الثامنة مساء، أما ياخور فلم يكن يبرح مكتبه المتواضع وكرسيه الخيزران، يكتب المقدمة للتحقيق الكبير، وكثيراً ما كان يُمزق ما يكتب ويكرر المحاولة، فإذا بالمقدمة التي يُنجز، تحفة فنية، لا يُمكن لمن يبدأ قراءتها إلا أن ينهي قراءة التحقيق كله، وغالباً ما كان يُنشر على صفحتين مع الصور، مدعوماً بالأرقام ووجهات النظر المتباينة ومنحاز إلى المنطق السديد الأقوى، كما كان ياخور مبدعاً وأستاذاً في التحقيق الصحفي التقليدي السائد حتى الآن في صحفٍ كبرى كـ"اللوموند" و"الفيغارو"».
يُضيف "خياط": «كانت اختياراته لمواضيع صعبة أمراً ميزه ولفت الانتباه إليه بقوة، منها وقوفه بشدة ضد تغطية نهر بردى في منطقة جسر فكتوريا، أيضاً دافع عن حق العمال في مرفأ اللاذقية، وفي مصانع القطاع الخاص وأتاح للكثير منهم الحصول على التأمينات الاجتماعية، وكان له تحقيق عن تكرار انفجار أسطوانات الغاز المنزلي عام 1978، أدى لاحقاً إلى معرفة المشكلة وحلها وتم إنقاذ آلاف العائلات من الحرائق والموت».
الصحفي الاستقصائي
في ميدان الصحافة الاستقصائية أيضاً، كانت معرفة الخبير والمدرّب الإعلامي حسين الإبراهيم بالراحل ياخور، يستحضر الإبراهيم، ويقول للمدوّنة: «لقائي الأخير مع المرحوم إبراهيم ياخور كان قبل ثلاث سنوات، في المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني، حيث أقامت UNDP مجموعة ورشات تدريبية، أدار ياخور الدورة الخاصة بالصحافة الاستقصائية، بينما توليت أنا مهمة التدريب في الإعلام الرقمي، لتأخذنا الأحاديث بعدها في مكتب الأستاذ طالب قاضي أمين مدير المركز، إلى ذكريات صحيفة "تشرين"، حيث أسس فيها نموذج الصحافة الاستقصائية، وتعامل معها بشغف، لدرجة أنه لم يكن على استعداد لتجاوز فضائها، سواءً في حواراته مع الزملاء، أو في تواصله مع الجهات التي يرصد فعالياتها، ويبحث في مضامين تلك الفعاليات وعثراتها».
يُضيف: «كان واضحاً أن إبراهيم ياخور لم يكن موظفاً صحفياً، بل كانت المهنة بالنسبة له أقوى من الوظيفة، بالرغم من المعوقات الكبيرة التي واجهته، وأوقفت أو اجتزأت العديد من تحقيقاته، وكان توجهه إلى العمل في التحقيقات التلفزيونية محاولة لاسترجاع طموحاته في تقديم مادة غنية بمضمونها الصحفي، كنا ننظر إلى ياخور على أنه النموذج الذي يجب أن يسعى إليه كل صحفي، وكان تواجده كمدرّب في دورات إعلامية متعددة، فرصة للصحفيين كي ينهلوا من خبراته وجرأته».
كشف المستور
لم يكن إبراهيم ياخور أيقونة للصحافة الاستقصائية محلياً فقط بل عربياً أيضاً، على حد تعبير مدير الإعلام التنموي في وزارة الإعلام "عمار غزالي"، والذي كان جزءاً من تعاون الوزارة مع شبكة أريج عام 2006، لتدريب الصحفيين، يومها اختير ياخور كما يقول للتدريب والإشراف وتقييم التحقيقات الاستقصائية المقدّمة، كذلك كان مدرّباً في دورات أقيمت بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتدريب حوالي 250 صحفياً في المجال الاستقصائي، يشرح "غزالي" للمدوّنة: «تناول ياخور خلال التدريبات مراحل وكيفية إجراء التحقيق، وما يتعلق بتقديم الوثائق والثبوتيات والتحضير للمقابلات والأسئلة، وكان يشير دائماً إلى أن الصحافة الاستقصائية في أكثر تعريفاتها اختصاراً هي كشف المستور».
يُضيف "غزالي": «عام 2010 بدأنا الاشتغال على دليل تدريبي عن الصحافة الاستقصائية للإعلاميين، بحثنا عن نماذج ولم يكن لدينا إلا ما أنجزه ياخور المُؤسس لهذا النوع الإعلامي، وحين أطلعته على مسودة الدليل، بارك الخطوة، وطلب مني رفده بكل ما يصدر عن الصحافة الاستقصائية من اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية، ليضع ملاحظاته ويبقى على اطلاع بما يستجد، أراد رؤية هذا العمل جاهزاً لكن إرادة الله فوق كل إرادة».
رغم أن المشقة كانت حاضرة في حياة إبراهيم ياخور بحكم ما اختاره وآمن به، لكنه لم يفقد أبداً القدرة على الإصغاء والنقاش والمبادرة بالود، يقول "غزالي": «زرته في بيته عدة مرات، لاحظت الصداقة التي اتسمت بها علاقته مع زوجته بعد 55 عاماً على زواجهما، كان رجلاً كريماً، لطالما رفض مناداته بلقب أستاذ، مفضلاً أبو البر، وهو ما يعرفه معظم من قابلوه».