تتزاحم التجارب والمحطات، في مشوار الدكتور خلف الجراد "1950 الحسكة"، إعلاميّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، أبرزها عمله باحثاً متفرغاً في مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في جامعة دمشق، تلاها رئاسته لتحرير صحيفة تشرين، وإدارته مؤسسة الوحدة، إلى تعيينه سفيراً في الصين، إضافةً إلى 19 كتاباً بين تأليفٍ وترجمةٍ من الروسية، والعديد من الدراسات والأبحاث والمقالات في دورياتٍ سوريّة وعربيّة، ثم كان فوزه بجائزة الدولة التقديرية مُؤخراً، في مجال النقد والدراسات والترجمة، وفي موازاة هذا كله، استقامةٌ وتواضعٌ وحكمةٌ، يُجمع عليها مُعاصروه وزملاؤه.
أول المشوار
القراءة في السيرة الذاتية للدكتور الجراد، تُظهر اجتهاداً ونشاطاً، ظهرت بوادرهما مبكراً، وبقيا حاضرين عبر الزمن، يقول في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "نشأتُ في أسرة ريفية فقيرة كادحة، حيث كان والدي رحمه الله عاملاً في المواصلات، وهو بالكاد يقرأ ويكتب، ومنه تعلّمت رسم حروف العربية ونطقها وتشكيل بعض الكلمات البسيطة، لكنه كان يشجعني ويحثّني بقوّة لأواصل تعليمي، ويُردد باستمرار أنه لا يريد أبداً أن أشقى وأكابد وأعاني مثله ومثل طبقته الكادحة، مثلاً، يقوم هو وزملاؤه عمال المواصلات في الثالثة أو بعدها بقليل بامتطاء دراجاتهم الهوائية من قريتنا (عجاجة الحجيّة) التي تبعد حوالي 35 كم عن مدينة الحسكة، بهدف الوصول إليها في الساعة السابعة صباحاً لينخرطوا في العمل هناك، ثم يعودون منها بحدود الرابعة عصراً ليصلوا إلى منازلهم في منتهى الإنهاك والتعب والمرارة.. ويتكرّر ذلك معهم بصورة يومية".
يُضيف الجراد: "واصلتُ بنفسي محاولات القراءة في القرآن وبعض الكتب التراثية القليلة الموجودة في المنزل ولهذا عندما أرسلوا لنا معلماً لجميع الصفوف وقلت له إنني أعرف القراءة والكتابة أجرى لي اختباراً وأدخلني في الصف الثاني الابتدائي مباشرة، هكذا كنت أقرأ للمجتمعين من الجيران بعض القصص والحكايات التراثية من (تغريبة بني هلال) أو (سيرة عنترة بن شداد) أو (سيف بن ذي يزن)، حيث يجلسوني على عدة وسائد لأصبح ظاهراً".
يُشير الدكتور إلى أن مُعلمه ذاك، واسمه (علي سليمان عمران) رحمه الله، أثّر في حياته، يقول عنه: "كان مثالاً في التواضع ودماثة الأخلاق وطيب المعشر والمحيا، وكان اجتماعياً وعطوفاً لأبعد الحدود.. فترك في نفسي وذاكرتي ووجداني انطباعات قوية مؤثرة لا تمحوها الأيام والسنين، وهو بالمناسبة من قرية جميله تدعى (الملاجة) في دريكيش، وتشتهر بمثقفيها وأكاديمييها، الذين ينظمون (مهرجان السنديان الثقافي السنوي المنوّع) فيها".
هوس القراءة
في المرحلة الثانوية بدأ الدكتور الجراد بارتياد مكتبة المركز الثقافي بالحسكة، وأخذ بيده جاره في حي غويران (الأستاذ محمد صباح الحسين)، الذي كان يعمل أميناً لمكتبة المركز الثقافي، يقول: "هناك اطلعت على كنوز الأدب والتاريخ والفلسفة والعلوم المختلفة، وتفجر لدي (هَوَس) القراءة والمعرفة بكل أنواعها. وأذكر أنني وزميل لي هو (الفنان عصام المانع) أطال الله عمره كنّا نعد صحيفة المدرسة الجدارية التي نبدلها أسبوعياً، وكلفتنا إدارة المدرسة بالإذاعة المدرسية طوال هذه المرحلة، ومن التذكارات التي لا أنساها، رواية الكاتب الروسي الشهير (فيودور دوستويفسكي) (الأبله)؛ اخترتها من قائمة عرضتها إدارة المدرسة لِيختار منها الطلبة المتفوقون في الصف الثاني الثانوي الفرع الأدبي في مدرستنا، التي كانت تسمى آنذاك (ثانوية نور الدين الشهيد) ثم أصبحت لاحقاً (ثانوية أبي ذر الغفاري)، والطريف أن معظم زملائي في الصف لم يكونوا قد سمعوا باسم (دوستويفسكي) بل ضحك بعضهم واستهزأ باختياري هذا العنوان (الأبله)، حيث كنت قد قرأتها من قبل في المركز الثقافي، وأحببت أن تكون تحت يدي دائماً".
حب الاطلاع
قدّم الدكتور الجراد خلال مشواره، نِتاجاً مُنوّعاً وثرياً، في الإعلام والسياسة والثقافة والتاريخ وغيرها، وفي الأصل، الدراسات الفلسفية والاجتماعية هي اختصاصه في جامعة دمشق، ثم حصل على دكتوراه الفلسفة في الفلسفة Ph.D في روسيا (قسم الفلسفة السياسية)، يشرح عن هذا التنوع وكيفية الموازنة بينه وما يتعلق بفكرة التخصص: "لديّ قراءات واهتمامات في معظم فروع المعرفة الفلسفية والاجتماعية والإنسانية والأدبية، التنوّع ناجم عن حبّ المعرفة والاطلاع، وكل ما قرأتُ عملاً ما تناسلت في خاطري مجموعه أسئلة وهو ما يقودني لطلب الاستزادة والاطلاع والتعمق أكثر فأكثر. وإذا كانت فكرة التخصص في العلوم التطبيقية الدقيقة (كالطب والهندسة والكيمياء وغيرها) ضرورية ومطلوبة جداً؛ ففي العلوم الإنسانية والاجتماعية تتداخل المعالم والنقاط الحدودية، ولا وجود لأي تخصص في هذا المجال لا يأخذ ولا يعطي من التخصصات الأخرى.
إن فلاسفة اليوم لا يقصرون إنتاجهم على الطبيعيات أو الإلهيات أو شؤون المنطق الصوري وغير ذلك؛ فالفنون على سبيل المثال يدرسها علماء الاجتماع وعلماء النفس والجمال والنقد الأدبي وغيرهم مما يطول ذكره".
التنويع ينسحب أيضاً على إصدارات الجراد من الكتب، وبعضها عُدّ إضافةً في ميدانه، يتحدث عن الحافز الذي يدفعه للشروع في البحث والتأليف، مع ما يتطلبان من جهد: "كلّ كتاب نقرأه أو نكتبه يترك خلفه أسئلة تدفع الباحث بصورة قوية إلى مزيد من التعمق، وسلسلة أخرى من المصادر والمراجع التي تستوجب الاطلاع عليها، وبعد (حَملٍ) متفاوت الشهور والسنين، يحصل المخاض ويبرز العمل الجديد ووراء إنتاجه عمل معقد وجهد وتوتر شديد. من هنا يأتي تنوع أعمالي بين تأليف وترجمة؛ ولا أظن أنني سأتوقف عن البحث والقراءة والكتابة إلا إذا حصلت لي ظروف فوق طاقتي وإرادتي".
صعوبات كبيرة
المسيرة الحافلة بالعمل، كانت حافلة أيضاً بالصعوبات، وكما يصفها الجراد، صعوباتٌ كبيرةٌ، استطاع التغلب عليها، يشرح المزيد عنها: "أبرزها انتقالي للعيش والدراسة في مدينة الحسكة من دون أهلي وكنت طفلاً في السادس الابتدائي؛ هكذا بدأت مسيرة الاعتماد المطلق على الذات، ومنها البداية الأولى للعيش والدراسة في الاتحاد السوفييتي "روسيا الاتحادية حالياً" فكان وصولي إلى مدينه "لينينغراد" (سان بطرسبورغ) في فصل البرد 28 -30 درجة تحت الصفر، قادماً من طقس الجزيرة شديد الحرارة، وكان تعلّم الروسية، التي أحببتها وترجمت منها عدة أعمال، وهناك تعرفت بالشعب الروسي الطيب الأصيل وبالعادات والمسارح والحياة الروسية الجميلة وبحضارة شديدة الأهمية وثقافة غنية ومتنوعة".
عالم الصحافة
إعلاميّاً، كان الجراد جزءاً فاعلاً من الإعلام الرسمي، كما كُلّف بالعديد من المناصب، يقول عن هذا الجانب من حياته، تحديداً الفترة التي ترأس فيها صحيفة تشرين: "قدّمتُ لمهنة الإعلام معظم معارفي وخبرتي في التعامل مع مختلف الشرائح الاجتماعية، وكيفية مواجهة القضايا الشائكة والصعبة بهدوء وتأنٍ وحكمة وعقلانية، وأفدتُ من خبراتي الإدارية والشبابية والسياسية وغيرها؛ وفتحتُ بقدر استطاعتي الآفاق في (صحيفة تشرين) للأقلام الأدبية والفكرية السورية والعربية، وكذلك استقطبنا عدداً مميزاً منهم في مجلة (تشرين الأسبوعي) و(سيريا تايمز)، وكان للصحيفة عدد من المراسلين خارج القطر".
في تشرين أيضاً، تعرف الجراد بشخصيات جديدة وعالم الصحافة المليء بكثير من الأمور المهمة؛ يُردف: "كما في أي مهنة أخرى عرفت المحترمين الشرفاء والمستقيمين، كما وجدت أشخاصاً اتخذوا هذه المهنة سلماً للتعلق إلى مكاتب المسؤولين ورجال المال والأعمال، وتحتفظ ذاكرتي بمواقف كثيرة، شكلت لدي تجربة إضافية جديدة، وقد شجعت بكافة السبل كل من كانت لديه رغبة في العمل الشريف والإنتاج، وهي مسألة تعد من أولويات واجبي، وأمام الإعلام الوطني الرسمي تحديات كبيرة معروفة".
داعم للصحفيين
الزميل والإعلامي زياد غصن، استحضر المرة الأولى التي تعرف فيها إلى اسم الدكتور خلف الجراد، عندما قرأ له ضمن سلسلة عالم المعرفة في العام 1996، كتاب (الإسلام والمسيحية)، ومن ثم، بعد نحو أربع سنوات كُلّف الدكتور بإدارة مؤسسة تشرين للصحافة والنشر، التي لم يمكن قد مضى على وجود غصن ضمن كادرها الصحفي سوى عامين فقط، وأضاف للمدوّنة: "سعى الدكتور خلف خلال وجوده في الصحيفة إلى محاولة تطويرها وإغناء محتواها الثقافي والفكري، وذلك من خلال زيادة عدد صفحات الإصدار اليومي لصحيفة تشرين من 12 صفحة إلى 16 صفحة، حيث أشرف على إصدار مجموعة من الصفحات الأسبوعية المتخصصة بالأدب والكتب والاقتصاد والسياحة والبيئة. وهذا ما أكسب الصحيفة غنى ثقافياً وفكرياً إضافياً، والأهم أنه كان دوماً يقف إلى جانب الصحفيين ولم يتردد في الدفاع عنهم لحظة واحدة".
وقال أيضاً: "لقد كان الدكتور خلف خير داعم ومساند لي في عملي الصحفي، لاسيما بعد تكليفي برئاسة القسم الاقتصادي في صحيفة تشرين خلفاً للزميل عبد الفتاح العوض الذي كلف برئاسة صحيفة الثورة، حيث كان له دور مهم في تطوير عمل الصفحة الاقتصادية وتعزيز حضورها الشعبي والرسمي كإحدى النقاط المضيئة في مسيرة الإعلام المطبوع في سورية".
حسن الإدارة
رئيس تحرير مجلة الفكر السياسي وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب العرب رياض طبرة، وصف الدكتور الجراد بالقامة الفكرية، ذات الحضور الفاعل والمؤثر قبل أن يكون قامة صحفية إعلامية، أعطت الكثير وأضافت ما هو جميل في الصحافة، وقال للمدوّنة: "الدكتور الجراد ومن خلال معرفة محرر برئيس التحرير في صحيفة تشرين القريبة من روحنا، نحن العاملون السابقون فيها، كان مدرسة في حسن الإدارة، ويكفيه فخراً هذه الروح العظيمة التي مكنته من إدارة أقسام تشرين المتنوعة بروح الأخ الكبير لإخوته، والأب العطوف لأبنائه، وكان في كل ذلك الحريص كل الحرص على وضع المحرر المناسب في المهمة المناسبة".
مضيفاً: "ما زلت أحتفظ بالعديد من تكليفات الدكتور خلف لي، وهي شهادة على مدى رقيه وروحه الحضارية، ولم يكن يخصني وحدي بهذه العبارات الفائقة المودة والتقدير، بل هذا هو خلف الجراد مع معظم إن لم أقل جميع من عمل معه في تشرين، ثم إنه زميل في اتحاد الكتّاب العرب وهنا عرفته عن قرب وما زلت فخوراً بزمالته في اتحادنا".