تعرضت صناعة صابون الغار والبلدي لقلاقل وهزات أثرت فيها بشكل بالغ ومنها عدم حماية الاسم التجاري مما شجع البعض على تقليد العلامات التجارية المشهورة، وكذلك الضريبة الجمركية التي فرضتها بعض الدول على تصدير الصابون إليها ورسوم الاستهلاك التي فرضها البعض الآخر على الصابون الغار والبلدي..

ورغم كل هذا ظل صابون الغار محافظاً على مكانته في السوق المحلية والخارجية، وقد حقق تواجداً ملحوظاً ومنافساً تحسب له ألف حساب بين المنظفات.

ولا تتوفر أرقام دقيقة حول الكميات المنتجة من الصابون الغار في ادلب في الوقت الحاضر ولكن سجلات مديرية الصناعة بادلب تشير إلى أن الصابون الغار والبلدي في المحافظة قد حقق قفزات كبيرة، وذلك من خلال المنشآت الصناعية والحرفية المرخصة والمسجلة لصناعة الصابون الغار والبلدي وهي بنفس الوقت لا تخضع لقانون الاستثمار رقم / 10 / .

فقد بلغ عدد المنشات الصناعية والحرفية المرخصة والمسجلة لصناعة الصابون الغار والبلدي في محافظة ادلب حسب ما ذكر المهندس حسين حميدي مدير صناعة ادلب إحدى عشر حرفة بالإضافة إلى منشأة واحدة تنتج صنف مختلف من الصابون وتبلغ الطاقة الإنتاجية سنوياً هذه الحرف 5760 طن من صابون الغار والبلدي.

ولكن كما هو معلوم فإن عدداً كبيراً من المصابن متوقفة عن الإنتاج منذ سنوات وبعضها الآخر قلّص إنتاجه بشكل كبير بسبب نقص الطلب على هذا النوع من الصابون مع ازدياد المنافسة من قبل الصابون الصناعي.

ويواجه الصابون الغار والبلدي في ادلب المنافسة الشديدة من قبل الصابون الصناعي الكيماوي بمختلف أصنافه، وفي الوقت الذي يتجه العالم المتقدم نحو المنتجات الطبيعية الخالية من الكيماويات، فإن الشعوب العربية- وللأسف- لا زالت تلهث وراء كل ما هو مصنّع كيماوياً وتعج شاشات التلفزة يومياً بالإعلانات التجارية لمئات الأصناف من منظفات الشعر والغسيل والأواني.

ولقد لعبت صناعة الصابون دوراً اقتصادياً هاماً في تاريخ ادلب وساهمت في ازدهار الوضع الاقتصادي لسكان المحافظة، وفي الماضي كان أصحاب المصابن من كبار الشخصيات الاقتصادية والسياسية في المحافظة وكان الأغنياء ينشئون المصابن في الأحياء ويشغلون العمال فيها وكانت المصبنة تعمل عمل البنوك في يومنا الحاضر، فكان أصحابها يقدمون القروض لصغار التجار والفلاحين ويسترجعون ديونهم عند انقضاء الموسم، ولعل الأمر الذي ساعد على قيام المصبنة بهذا الدور هو وجود خزنة حديدية داخلها فكان كل من يريد إيداع أمواله في مكان آمن يسلمها إلى صاحب المصبنة كوديعة، وكذلك كان المزارع يضع زيته أمانة عند صاحب المصبنة وإذا احتاج للمال يحضر إلى المصبنة ويبيعها من زيته المودع فيها ويقبض الثمن بالسعر السائد.

ولما كان أصحاب المصابن (أو ما كان يعرف بجماعة المصابنة) من الوجهاء وأصحاب الالتزام وكبار التجار والعلماء وأعضاء في المجلس البلدي وكان نتيجة ذلك أن وجد في المصبنة غرفة أو قاعة يجلس فيها صاحب المصبنة وحوله الوجهاء والأثرياء وكبار موظفي الدولة فيما كان يعرف باسم الديوانية حيث يتبادلون الحديث والآراء ويتشاورون في الأمور العامة.

كما يرجح بعض المؤرخين تاريخ صناعة الصابون في ادلب إلى مئات السنين الماضية مستدلين على ذلك بالكثير من الكتابات التي دوّنها الرحّالة والمؤرخين القدماء الذين عاشوا في القرن العاشر الميلادي، وأول وصف لصناعة الصابون جاء على لسان شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي الملقب بشيخ الربوة بأن الصابون كان يصنع في سورية ويحمل إلى سائر البلاد.

وفي زمن الاحتلال العثماني والفرنسي، نالت ادلب شهرة كبيرة في هذه الصناعة التي أصبحت حكراً ملكياً حيث كان الوالي هو المسؤول عنها وكان يحظر على أصحاب المصانع ممارسة هذه الصناعة إلا بعد أن يمنحهم عقدا يسمح لهم فيه صنع الصابون، ويضمن بذلك مورداً مالياً جيداً وثابتاً من أصحاب المصانع.

ويعتقد أن هذه الصناعة انتقلت على أيدي الصليبيين إلى أوروبا وخاصة فرنسا فتأسست مصانع الصابون من زيت الزيتون في مرسيليا وكانت هذه المصانع تحضّر الصابون بطريقة مشابهة لطريقة تحضير الصابون الغار والبلدي، وانتشرت هذه الصناعة في انجلترا في القرن الرابع عشر.

وقد شكل الصابون سابقاً أحد أهم السلع التي كان يتاجر بها تجار ادلب، وقد كان التجار يجوبون المدن السورية الشمالية لتسويق ما لديهم من صابون وكانت بضاعتهم تلقى رواجاً كبيراً في تلك المدن التي كان سكانها يستعملون الصابون الغار بكثرة باعتباره أجود أنواع الصابون.

ولا يعرف على وجه التحديد من هو مبتكر هذه الصناعة، فقد وجدت في سورية وانتقلت إلى دول ومدن أخرى، ولكن الثابت أن هذه الصناعة وجدت لها في سورية البيئة والظروف المناسبة والتي ساعدت على تمركزها في هذه المدينة أكثر من غيرها، ولعل من أهم الأسباب التي ساعدت في ذلك وفرة زيت الزيتون في مناطق سورية الشمالية ومحيطها والذي هو المادة الأساسية في صناعة الصابون حيث أقيمت معامل لإعادة عصر مخلفات تصنيع البيرين بغية الحصول على زيت من الدرجة الثانية والثالثة يستخدم في صناعة الصابون.

كما كان لانتشار الحمامات التركية العامة في محافظتي حلب وادلب دور في استمرار هذه الصناعة وزيادة الطلب عليها، فقد ارتبط الصابون الغار والبلدي قديما بالحمامات العامة إذ كان العامل ينتهي من عمله مساءً ويشتري قطعة من الصابون ويذهب بها إلى أحد الحمامات ليغتسل.

صناعة الصابون في ادلب بدأت منذ أن سكن الإنسان منطقة ادلب حيث كانت صناعة الصابون منزلية يدوية وبدائية وكانت لسد الحاجة المنزلية وكان أفراد العائلة يستخلصون زيت الغار بجمعه وطبخه وفصل الزيت النقي ثم صناعة الصابون المشهور برائحته الذكية، إضافة إلى فوائده السحرية للجسم والشعر. وتوارثت الأجيال صناعة الصابون ومنه جاءت شهرة صابون الغار في سورية والبلدان المجاورة وأوروبا وأمريكا حتى شملت اليابان وباقي دول العالم.

إلى هذا فقد اكتسبت بعض الشركات السورية الخبرة ممن لديهم معلومات عن صناعة الصابون وأضافت عليها الخبرة العلمية والأبحاث التي أجريت على تطويرها في مخابر قد تم إعدادها خصيصاً لهذه الغاية ضمن معاملها بوجود اختصاصيين كفء أصبحت تتميز بصناعة صابون الغار والبلدي عن جدارة واستحقاق.

كما قامت باستخراج الزيوت من حبات الغار ومن النباتات الأخرى وبالطرق اليدوية المحدثة، وبهذا فقد ضمنت جودة أنواع هذه الزيوت دون أن يدخل فيها عامل الغش واللعب بمواصفات هذه الزيوت ومن هنا ستطاع المستهلك أن يثق بما أنتج.

على الرغم من التقدم الهائل في الصناعات الكيميائية الحديثة ومزاياها فمن الواضح أن الأعشاب والزيوت العشبية لديها الكثير من مما تقدمه، فغالبيتنا نميل إلى نسيان أن البشر اعتمدوا بشكل دائم تقريباً طوال التاريخ باستثناء الخمسين السنة الأخيرة على النباتات لمعالجات أشكال المرض كافة إن كانت داخلية أو خارجية.

أخذت اليوم تعود العلاجات العشبية إلى الواجهة لأن التركيبات الكيميائية أخذت تضعف فعاليتها اليوم فاستخدام الأعشاب وزيوتها. يشهد اليوم نهضة مثيرة في البلدان الغربية كما أن القلق من الآثارالجانبية لإستعمال المواد الكيميائية في الطب الحديث يشجع الناس على البحث عن أشكال علاج طبيعي أكثر لطفا على الجلد والبشرة.

والإحصائيات تدل على أن 10% الى 20% من الناس في مستشفيات الغرب موجودون نتيجة للآثار الجانبية للعلاج الكيميائي واستخدام التراكيب الكيميائية لمواد التجميل من كريمات وصابون وشامبو وغيرها.

وبما أن استخدام الأعشاب آمن جداً شهدت صناعة صابون الغار رواجاً كبيراً وكذلك المواد العشبية وزيوتها المستخرجة في الشركات المصنعة أيضا على الطريقة اليدوية المطورة للمحافظة على أكبر قدر ممكن من خواص هذه النباتات متلازمة مع الأبحاث العلمية الحديثة.

إلى هذا فقد شهدت الساحة الصناعية في سورية مجموعة أبحاث علمية موثقة لأكثر من 35 زيتاً عشبياً (عطرياً) قامت بها بعض الشركات الوطنية المصنعة لصابون الغار وهي:

الغار، الزيتون، زيت شجرة الشاي الأسترالي (T.T.O)- زيت السمسم، الصبار- الصنوبر البري، الحبق، اليانسون، الآس (الحمبلاس)، حبة البركة، الياسمين، الزنزلخت، السرو، الصعتر، البابونج، الطرخشقون، التوت الأبيض، النعنع البري، الحناء، الخبازة البرية، العرعر الشائع، اكليل الجبل، اللافاندر، الأفوكادو، الورد الجوري، ورق الجوز، الجزر، عشبة لسان الثور، الجوجوبا، الأخدرية- القريص، بذور العنب، بذور الرمان، جوز الهند، زيت النخيل، زيت اللوز، زيت عباد الشمس، زيت القطن- وبناء على هذه الأبحاث قام مختصونا بدراسة كل نوع على حدى بما يحويه من حموض وبروتينات وفيتامينات ومعادن الخ من التركيبات التي تفيد في حقل اختصاصنا ونتيجة لهذه الدراسات والأبحاث قام اختصاصيونا بوضع تركيبات لأكثر من 15 نوعا من انواع الصابون وحسب الحاجات التي فرضها الواقع والضرورة.

أما الصابون فقد أنتج في بيوتنا بالإضافة إلى إنتاجه في المصانع، وخاصة في ادلب وحلب التي وصل صابونها إلى جزر المتوسط ومصر، وقد ذكره ياقوت الحموي وغيره من رحالة العرب والغرب.

زيت الجول هو المفضل لصناعة الصابون، إذ أن زيت الفقيش حفظ للأكل وزيت الجول لا يفي بالحاجة فكان البدادون يعصرون الجفت في معاصرهم أو في المطروف، ليبيعوا ما ينتجونه من زيت لمصانع الصابون، أما طريقة صنع الصابون فتختلف من منطقة لأخرى، ففي ادلب اعتمد على الحديد الذي يمتاز به مياهها فلا يذوب الصابون بسرعة في الماء، أما الطريقة فهي: تذاب القطرونة أو الصودا الكاوية في الماء بنسبة 6:1 أو 7:1 ثم تضاف إلى الزيت وتغلى، خلال غليانه يحرك الزيت بقضيب حتى يتحول لونه إلى الأبيض تقريباً، فيقال لجن كالبان ليصب في قوالب خشبية تدعى جوارير ثم يقطع بالسكين أو الخيط فلقاً بعد أن يبرد.

قلنا أن نسبة القطرونة هي 6:1 فلكل صفيحة زيت يضاف رطل قطرونة، ووزن الصفيحة حوالي ستة ارطال. وقد أرادت نساؤنا لصبونهن أن يعطر، فأضفن إليه عند صناعته زيت الغاز وكن يجمعن ثمار الغار السوداء، وهي تنضج في فترة نضوج الزيتون، ثم يغلينه لينضج ثم يبرد ويفقش في نفس الماء فتعلو قطرات زيته على السطح فتقفى وتزاد إلى الزيت والقطرونه بنسبة 24:1 وبذلك يوفرون 24 :1 من الزيت ويتمتع الغاسلون برائحه الغاز العطرة تفوح من الصابون الذي اطلقوا عليه اسم «صابون غاز» وبعضهن صنعن الصابون من زيت فيه نسبة العكر عالية وسمي «صابون عكر» ولونه أسود، وقد استعمل لغسل ملابس العمل القديمة.