وَرِثَ جهاد روحي الدهان حرفة الخيط العربي عن عائلته المعروفة بممارستها حِرفاً تراثية متنوعة كالعجمي والفسيفساء والقاشاني، حيث كان لأبنائها إنجازات كبيرة عبر التاريخ، أبرزها مُساهمتهم في ترميم الجامع الأموي بعد احتراقه عام 1893، ولا زالت أعمالهم ظاهرة في الشبابيك الثلاثة من الزجاج المعشق فوق المحراب، والفسيفساء المذهبة، وزخارف سقف القبة الكبرى وسقف المدخل، إلى جانب تصميمهم لزخارف قصر الحير في المتحف الوطني، وزخارف المدرسة الجقمقية، وصالة محطة الحجاز، ومن ثم طوّع الدهان تخصصه في الهندسة المدنية لخدمة حرفته وتطويرها، مُتجاوزاً مرحلة التقليد والاتباع نحو الإضافة والإبداع، فتمّم ما قدمه والده، وزاد عليه.
الخيط العربي
عمل الدهان مهندساً مدنياً طوال 25 عاماً، لكنه لم ينقطع خلالها عن ممارسة حرفته، إلى أن تعذّر عليه التوفيق بين المهنتين، فاختار الخيط العربي، ولا سيما أنه واحدٌ من القلائل الذين لا يزالون يعملون بها في سورية، ومن واجبه المحافظة عليها وضمان استمراريتها. يقول في حديث إلى "مدوّنة وطن": "تتمثل فكرة الخيط العربي في أن يمر خيط مستقيم من الخشب بانكسارات وتداخلات ليشكل في محتواه أشكالاً هندسية غاية في الروعة والإتقان، وتعتمد معظم الأشكال على النجمة والدائرة والمستقيم، عبر تناغم دائري يحكم تقاطعاتها". أمّا مادتها الأولية فهي كما يُوضح خشب الجوز البلدي الغامق، مُضافاً إليه أنواع أخرى من الخشب الفاتح المائل للأصفر، كالسنديان والكندي، لإظهار جمالية الشكل.
إضافاتٌ فنيّة
خلال 45 عاماً من العمل في الخيط العربي، تخطّى الدهان الكثير من التقاليد والأنماط الفنية التي اكتسبت صفة الإلزام مع الوقت، مُتكئاً على دراسته للهندسة المدنية، التي أزاحت على حد تعبيره، عقباتٍ تتعلق بالتصاميم واختيار الرسوم، من خلال الذوق والحس الهندسي اللذين تطورا عنده بموازاة العمل اليومي، كذلك أدخل مع مجموعةٍ من الحرفيين إضافاتٍ على الحرفة، منها "النقوش، الصدف البحري والنهري، العظم الصناعي" لإعطاء زخارف ذات رونق مميز على مشغولاته. يُضيف أيضاً: "المهن التراثية متداخلة ومتناغمة، ومن الصعب أن تحضر إحداها دون البقية، لتظهر من خلالها جميعها الروح الشرقية، حتى إن بعض القطع تشتمل على عدة مهن يدوية قديمة كالخيط العربي، المعشّق، الآرابيسك، الحفر، النقش، الصدف". كذلك يُمكن رؤية الحرفة في "الأبواب، الطاولات، الأسقف، الجدران، المنابر، الشبابيك مع الزجاج الملون في المساجد والكنائس".
بيت الشرق
خسر الدهان ورشته خلال الحرب، لكنه لم يتوقف عن العمل، حيث انضم مع عدد من الحرفيين إلى بيت الشرق للتراث حيث التقيناه، وهو بيتٌ عربي في حي الميدان الدمشقي، قدمته مؤسسة الوفاء التنموية لأصحاب الحرف التراثية المُتضررين، ليعملوا ويكسبوا رزقهم، غير أن خسارة الورشات ليست إلا جزءاً من أخطارٍ كثيرةٍ تُهدد حرفة الخيط العربي، وعلى ما يقوله الدهان "لا بد من الاعتراف بأنه لا مستقبل لها ولغيرها من المهن التراثية، على الأقل ضمن المدى المنظور، فالشباب اليوم يُفضلون الأعمال المربحة بشكلٍ أسرع، وهم غير قادرين على تحمل الظروف كما كان الجيل الأكبر عمراً"، كما أن المردود المادي لم يعد كافياً ولا مقنعاً، حتى إن الإقبال على دورات التدريب التي يُقيمها بيت التراث ضعيف، بالتالي لم يستطع تعليم حرفته لآخرين.
يُضيف للمدوّنة: "الأسباب المادية تلعب دوراً كبيراً في غياب الحرفة، فاليد العاملة تتقاضى أجوراً مرتفعة مع ندرتها، والمواد الأولية مكلفة جداً، عدا عن انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، بحيث نحتاج شهراً لتجهيز قطعة كنا نحتاج أسبوعاً فقط لإنهائها، وفي المحصلة سعر المُنتج مرتفعٌ جداً، ولا يمكن لأيٍّ كان شراؤه، في الظروف المعيشية الصعبة التي يعرفها الجميع، ليكون الزبون فقط من الشريحة الثرية والمغتربين".
رقمٌ صعب
الحرفي ماهر بوظو والمشرف على بيت الشرق للتراث أثنى على جهود الدهان، في الحفاظ على حرفة الخيط العربي العريقة، والتي أصبحت من الكماليات في أيامنا هذه، واصفاً إياه بالحرفي المُتمكن والمتمرّس في عمله، وقال للمدوّنة: "جهاد الدهان حرفيٌّ خبير، تعلّم مبادئ الحرفة وأصولها على يد والده وعائلته، لكنه خلال ممارسته اكتسب خبراتٍ يصعب حصرها، كما أنه استثمر تخصصه العلمي في حرفته اليدوية، لهذا أصبح رقماً صعباً في الخيط العربي".
وعن تواجده في بيت الشرق للتراث، تحدث بوظو: "صاحبة الفكرة السيدة رمال الصالح رئيسة جمعية الوفاء التنموية السورية، قدمت تسهيلات كبيرة للحرفيين، لأن هدف المشروع إنساني، غايته الأهم مساعدة الحرفيين الذين فقدوا محلاتهم خلال الأزمة وخسروا أدوات عملهم وما ادخروه سابقاً، ومعظمهم علامات فارقة في حرفهم، أي أن توقفهم عن العمل سيكون له تأثير سلبي كبير على الحرف التراثية، التي تعيش بطبيعة الحال تحدياتٍ عديدة، فأمنت لهم المكان والماكينات والمواد الرئيسية