من حي القزازين في دمشق إلى مدينة أرمناز في إدلب، تناقلت عائلاتٌ كثيرة حرفة الزجاج المنفوخ، وتفنّنت في إبداع أشكالٍ ومنتوجاتٍ غاية في الجمال والجودة، غير إن الصنعة التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، انتشرت مع الوقت في مختلف المناطق السورية، حتى أصبحت جزءاً من الهوية المحلية، ودلالةً على الذوق الفني للحِرفي وإمكانياته اليدوية في تكوين نماذج لم يسبقه إليها أحد، ومن ثم ساهم التنافس بين المُمارسين في ازدهار الصناعة، وتحوّلها إلى مصدر رزقٍ يعتاش منه الحرفيون الذين توارثوها، إلى أن أصابها ما أصاب الحِرف التراثية عامةً في الحرب بتأثّر المُمارسين وفقدان المصانع، لِيأتي إدراجها على قوائم التراث الإنساني في منظمة اليونسكو، خطوة من شأنها تسليط الضوء على الحرفة العريقة وضمان استمراريتها.
تاريخ الصنعة
يستعيد الحِرفي فايز تلمساني آخر العاملين في الزجاج الدمشقي، تعلّم الحرفة عام 1964 في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن" تاريخ الزجاج المنفوخ حيث كان يُسمى قمرية، يقول: "حفر الصنّاع الأوائل الجبصين ووضعوا فيه شرائح من حجر الكوارتز، الذي يعكس الضوء خمسة أضعاف للجهة المقابلة، واستخدموه في النوافذ حتى يدخل ضوء القمر إلى البيوت، لكن عندما اكتشف الفينيقيون الزجاج في سورية، استعملوه بدل الكوارتز، وهنا تبدّل اسم الحرفة القائمة على الترابط بين الجبصين والزجاج، والموصوف بالعشق، من قمرية إلى الزجاج المعشّق، وتعددت استعمالاته بين الأسقف المستعارة واللوحات الجدارية، إلى الثريات والقناطر وغيرها".
إضافةً إلى استخدام الزجاج المنفوخ (المعشّق) مع الجبصين، لدينا أيضاً الخشب، وهو الأكثر حداثة في الحرفة لكن حضوره ينحصر في الأعمال الهندسية، كذلك يُستخدم الرصاص بشكلٍ قليل لما فيه من أضرار، ليبقى العمل على الجبصين هو الشائع، يشرح تلمساني: "الجبصين مادة قوية ومعمّرة، بسبب أنه بعد الصب يثبت فلا يتمدد ولا يتقلص، وكلما قدم في الزمن وتعرض للشمس والمطر، اكتسب مزيداً من القساوة، وفي لغة الحرفيين (نحّس)، كذلك ينقسم الزجاج المعشّق إلى العادي، أي القطعة ذات الوجهين، والدمشقي الذي يتماثل فيه الوجهان كقطعة واحدة، وهو موجود في سورية فقط".
شهادةٌ رسميّة
نقل تلمساني الحرفة إلى ابنه وكنته وعدد من طلاب جامعة دمشق، الذين طلبوا منه تعليمهم بعد أن شاهدوا أعماله، لكن هؤلاء لم يتمكنوا من الحصول على شهادة رسميّة تُثبت أنهم قادرون على ممارسة المهنة، لأنهم لا يمتلكون محلات تجارية كما تطلب الجهة المسؤولة، يقول للمدوّنة: "من غير المنطقي وضع هذا الشرط أمام شباب في مقتبل العمر، حتى أنه يمنعهم من ممارسة الحرفة خارج سورية أيضاً، فهم لا يملكون أي دليل أو إثبات على مهارتهم، ولا أدري لماذا لا تُعاملنا الجهات المعنية كما يتم التعامل مع بقية الاختصاصات كالطب والهندسة والحقوق، كلهم يحصلون على شهادات دون أن يطالبهم أحد بعيادات ومكاتب، والمفارقة أن المسؤولين في مجالنا يطالبوننا دائماً بتعليم الآخرين الحِرف قبل اندثارها، لكنهم في نفس الوقت يضعون أمامنا العراقيل".
الكهرباء أولاً
الحِرفي أحمد الأشقر تعلّم الحرفة عام 1989، وأتقن مختلف تقنياتها بدءاً من الزجاج المعشّق باستخدام قضبان الرصاص، وصولاً إلى الزجاج التيفاني أي لف النحاس حول قطعة الزجاج ثم تلحيمه. يتحدث للمدوّنة: "فقدت ورشتي في منطقة عين ترما خلال الحرب، واضُطررت لإعادة التأسيس والبدء من جديد، لكن العوائق تزداد في السنوات الأخيرة وعلى رأسها الكهرباء كونها صلب عملنا حيث نقوم بتشكيل الزجاج المصهور من خلال إدخاله إلى الفرن الكهربائي".
عدا عن الفرن، تنقسم أدوات الصنعة كما يشرح الأشقر إلى "البولين، الحديدة، السيلكا، الغزالة"، وغيرها الكثير مما طوره الممارسون وأدخلوه عليها، لتتمايز عن غيرها بأنّها صناعة يدوية تفسح مجالاً لإبداع ومهارة الصانع، وتُعطي خيارات عدّة للزبون، فتصنيع الزجاج ونفخه يكون إمّا من قطع زجاجية مكسورة، يجمعها صانعو الزجاج الذين يقومون بصهرها ونفخها من جديد، أو من مادة الرمل إذ تعدُّ السيلكا المشتقّة من الرمل، والصوان، والكوارتز المكوّن الأساسي للزجاج.
دوراتٌ مجانيّةٌ
في السنوات الأخيرة، اهتمت عدة جهات بصون وحماية صناعة الزجاج المنفوخ من الاندثار، من بينها الجمعية الحرفية للمنتجات الشرقية في خان الزجاج في باب شرقي، حيث يُجري الحِرفيون فيها دورات تدريبية مجانية للحِرف التُراثية الدمشقية (18 حرفة) بإشراف وزارة الصناعة. يقول الحِرفي "جوني غاريبيان" مدير النشاط التدريبي والتعليمي في الجمعية للمدوّنة: "الصون العاجل يمكن أن يجعل دائرة الاهتمام أوسع، لكن الحاجة مُلحّة لتلبية احتياجات الحرفيين وتعليم الحرفة للشباب، ولاسيما أن أعداد المتمكنين والاحترافيين في هذا الإرث، تقل يوماً بعد يوم".
في الجمعية، يهتم الحرفيون أيضاً بالفنون التي تأخذ الزجاج المنفوخ وتضيف إليه فنوناً أخرى كالرسم والتعشيق وتنزيل المينا، حيث يتميز نفخ الزجاج الدمشقي بالألوان المستخدمة وهي الأبيض والأزرق والأخضر والقرمزي، إضافةً إلى الزخارف المطلية بالذهب. يُضيف غاريبيان: "كل هذا يقوم به طلابنا بأيديهم، حتى إنّ الشباب الذين يأتون لاتباع دورة، سرعان ما يصبحون مُقاتلين من أجل الحِرف، ما يعني إمكانية سد النقص الحاصل في أعداد الحرفيين الذين هاجر عددٌ كبيرٌ منهم خارج البلاد، وتوقف آخرون عن العمل بسبب فقدان ورشاتهم خلال الحرب، ولا بد من تأكيد إن مزاولة الحرفة هي الطريقة الحقيقية للحفاظ عليها، وهو ما يفعله الحرفيون الذين يفتحون محلاتهم يومياً رغم الظروف الصعبة جداً".