خلال عملها لحوالي عقد من الزمن في بدايات تأسيس مرفأ طرطوس، عرفت "لميا بياسي" بالسيدة الأنيقة بلباسها، المتواضعة بمعرفتها، والكريمة بخبرتها المتراكمة، حتى إن البعض لقبها بالسيدة المؤسسة خصوصاً بعد عملها لاحقاً في مصفاة بانياس خلال مرحلة التأسيس الأولى، وتسجيل اسمها في سجلاتها بالرقم الذاتي /95/ ضمن ما يفوق /6/ آلاف رقم ذاتي حالياً.

ثمانون حولاً

تعد السيدة "لميا" واحدة من قامات مدينة "بانياس" حيث كان يشار إليها بالبنان وهي التي لم تبخل بالعطاء طيلة سنوات حياتها التي وصلت إلى /81/ عاماً.

بدأت "بياسي" مشوارها التعليمي من مدرسة الراهبات ضمن مدينتها الصغيرة "بانياس"، علماً أن التقديم على الشهادة الإعدادية أو الثانوية كان آنذاك ضمن مدينة "اللاذقية"، تلقت الدعم المالي والاجتماعي من والدتها لمواصلة تحقيق حلمها في التعليم الأكاديمي في فترة كان التعلم محدوداً ومحصوراً بالذكور فقط، وبفعل التنوع الاجتماعي الذي بدأ يدخل المدينة الساحلية ودخول الشركة العامة للنفط الناشئة حديثاً، والتي استقدمت العمالة المحلية والعربية والأجنبية، ساهم في خلق بيئة اجتماعية مختلفة، على حد وصفها.

شهادتها الجامعية عام 1969

تشير السيدة "بياسي" في حديثها للمدونة إلى محدودية عدد المدارس في المدينة وعدم جمعها للبنات والبنين آنذاك، وتقول: كانت مدرسة "النهضة" أو ما يسمى مدرسة "المعلم يوسف" تدرِّس الذكور، ومدرسة الراهبات تدرس الإناث، قادمين إليهما من مختلف مناطق المحافظة، وكانت إحدى المدرستين تصرف طلابها قبل الأخرى بحوالي الربع ساعة منعاً لحدوث مشاغبات على حد تعبيرها".

بعد الحصول على الثانوية كانت الرغبة الأكاديمية لديها الأدب الفرنسي، ولكن إحداث كلية التجارة في جامعة "دمشق" دفعها للتسجيل فيها عام 1962، وبعد أربع سنوات أنهت دراستها بتقدير جيد جداً وتقدمت لمسابقة أعلنتها رئاسة مجلس الوزراء لصالح المؤسسة العربية للإعلان والنشر في "دمشق"، وبعد النجاح بالمسابقة والتعيين لصالح رئاسة المجلس طُلب منها كأكاديمية الالتحاق بالعمل ضمن "مرفأ طرطوس" المحدث والذي بدأت نواته الأساسية بالتشكل، فتسلمت دائرة الحسابات كأول سيدة تترأس العمل في هذه الشركة الحيوية عام 1968 واستمرت حتى عام 1976 مؤسسة لهيكلية العمل الإداري الأكاديمي في المرفأ، وفق ما أوضحته خلال اللقاء، فضلاً عن أن العدد القليل من الموظفين الأكاديميين أتاح لها الفرصة لتعليم موظفي قسمها طريقة العمل الأكاديمي، كي تثبت جدارتها بالعمل من دون أخطاء، على عكس البعض الذي استحوذ على المعلومة الأكاديمية ليتفرد بالعمل.

السيدة بياسي

مسيرة ناصعة

المتقاعد محمود محمد

تعود السيدة بذاكرتها إلى الوراء وتستذكر أن مجلة العربي الخليجية، نشرت صورة جماعية لها وزملائها في القسم كغلاف رئيسي للمجلة بعد نضوج تجربتهم بالعمل في المرفأ، وبعد الزواج وإنجاب الأولاد انتقلت للعمل في "مصفاة بانياس" المحدثة، وكانت بداية تأسيس هيكليتها الإدارية والعمالية، وترأست الدائرة المالية حينها، وكانت من أوائل مدراء هذا القسم وتميزت تلك الفترة على حد قولها بالدقة في العمل والتي أنتجت مراحل عمل ناجحة ونتائج نهائية مرضية للجميع، حيث لم يوجه لها ولموظفي قسمها تحت إدارتها أي عقوبة أو تنبيه أو إنذار، بل على العكس نالت الكثير من شهادات الشكر والتقدير على تفانيها بالعمل وعطائها بتعليم خبرتها لموظفيها في القسم رغم أن مرحلة التأسيس كانت حساسة وصعبة وفيها الكثير من الضغط المهني.

وتضيف: «غالبية الموظفين في القسم كانوا يحملون الشهادة الثانوية وكنت الوحيدة التي تحمل الإجارة الجامعية التخصصية، لذلك كنت المرجعية في كثير من التفاصيل ضمن قسمي وبعض الأقسام الأخرى، والجميع يبادلني الود والاحترام كوني لم أبخل بالخبرة أو المعلومة المهنية على أحد، بل على العكس كنت أرى أن من حق الجميع امتلاك المعرفة".

السيدة المؤسسة

قدمت السيدة "بياسي" الكثير للعمل الإداري في المصفاة بعد تسلمها إدارة قسم الحسابات ضمن الدائرة المالية، وكما يقول الإداري المتقاعد "محمود أحمد" /86/ عاماً وهو صاحب الرقم الذاتي أربعة في سجلات المصفاة، فإنه وفي تلك الفترة من التأسيس كان أغلب الموظفين في القسم من حملة الشهادة الثانوية ويحتاجون للمعرفة والتعلم المستمر لطبيعة تدقيق البيانات والتأكد من أصولها ولواحقها الورقية، وهذا ما برعت فيه "لميا" نتيجة خبرتها التراكمية في المرفأ سابقاً، وقدمته للموظفين بكل ود واحترام ولم تبخل بمعرفتها أبداً، علماً أنها كانت أول سيدة تدير القسم وجميع من يعمل لديها من الموظفين الذكور ولم تشعرهم بتفوق أو تمييز، وهذا ما جعلها تحظى بترحيب واحترام الجميع، فباتت ملاحظاتها التعليمية لقواعد العمل وأصوله محط اهتمام وإصغاء وفائدة تراكمية لجميع فريق عمل قسمها.

يضيف "أحمد": «كانت تخبرني دوماً بطرق تنظيم عملها وتفاصيل حياتها اليومية، وكيف كانت تقوم بكل ما تخطط له كي لا يتأثر منزلها بضغوط عملها اليومي، فتميزت بإدارة الوقت والجهد أيضاً، فكانت السيدة التي تناسبت مع موقعها الوظيفي المهم في زمن كان الهم الوحيد هو تحسين واقع الحياة بالنسبة للموظفين عامة.

قوة الشخصية

سنوات كثيرة أمضتها "لميا" في العمل الوظيفي كأول خريجة كلية تجارة دفعة 1965- 1966 في مدينة "بانياس" وثالث سيدة تنهي تعليمها الأكاديمي في المدينة بعد "خديجة وإنعام عثمان"، وما يزال يذكرها من عاصرها في تلك الفترة، ويتذكرها الأبناء الشباب من بعدهم، فهي شخصية لا يمكن أن تنسَ، ووفق ما يؤكد "رامي دوجي" مستذكراً ما سمعه من والده المرحوم "مطيع دوجي" الذي شغل عدة مناصب مهمة في عدة مؤسسات حكومية أهمها معاون مدير عام، حيث كان يتحدث أمامه عن سيدة وقورة إن تحدثت في المجالس العامة، وقوية الشخصية بين أندادها من الذكور، ومتعلمة في زمن ندر فيه التعليم للفتاة ضمن البيئات الاجتماعية، وخبيرة في مجال عملها الحسابي لتنقلها بين عدة مؤسسات إنتاجية مهمة في مراحل تأسيسها تاركة البصمة الجميلة فيها، وكريمة في عطائها بفضل ما اكتسبته خلال مراحل عملها الوظيفي، لذلك ما تزال صورة هذه الشخصية مرسومة في ذاكرته حتى جمعته الصدفة بأبنائها فسأل عنها وقص لهم ما سمعه من والده.

يشار أن السيدة "لميا عبد الرحمة بياسي" مواليد عام 1943 متزوجة من المرحوم المهندس "أسامة عثمان" الذي لقب بشيخ مهندسي المدينة، ولديها أربعة أبناء من حملة الشهادات الجامعية.