قلما تجتمع صفات وسجايا كما اجتمعت لدى الأديب والمحامي الراحل "محمد صالح كامل" الذي نال وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الأولى، وعاصر كضابط لامع فترة الوحدة مع مصر وحرب فلسطين، امتهن المحاماة ودافع عن حقوق الناس في زمن البؤس وتسلط ذوي النفوذ حتى لقب بأبي الفقراء، وشغف بالترجمة التي كانت منطلق حياته الأدبية التي تميز بها حتى سم بمتنبي العصر.
عائلة فكر وعلم
جده الشيخ العلامة الشيخ "سليمان الأحمد" أحد أعمدة اللغة العربية والتراث الإسلامي، ووالدته الشاعرة "فتاة غسان" التي تجاوز أدبها المحلية إلى العربية، وخاله الشاعر "بدوي الجبل" شاعر الأحاسيس والوجدانيات، وأخوه الدكتور "صلاح صالح" الذي لقب بأبي الرياضيات المعاصرة، وعليه فهو سليل بيئة فكر وثقافة وعلوم وأدب.
بيئته كانت حاضنة ومنبعاً لنهر الأدب لديه، فقد نال الكثير من شهادات التقدير الأدبية، رغم انشغاله بحل مشاكل وهموم الناس من خلال عمله كمحامٍ اختص لنفسه هموم وشجون الفقراء دون مقابل حتى لقب ب "أبو الفقراء"
استحق وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى لجدارة فكره ومكانته الاجتماعية وخدماته العسكرية التي كانت بداية حياته المهنية، بحسب ما أوضح حفيده "محمد صالح" لمدونة وطن.
يقول "صالح": «استخدم مفرداته الأدبية في المجال القانوني كمحامٍ خلال مرافعاته القضائية، حيث عرف بمرافعاته الوجدانية الرصينة المبنية بحبكة وصور ومفردات لا تشوبها شائبة، خاصة وأنه آمن بقضايا الفقراء وناصرها ومنحها كل جهد ووقت وأضفى عليها المصداقية الواقعية من خلال التحقق من حيثياتها، فبات المحامي وفنان الكلمة الجريئة، علماً أنه في جوانب كثيرة تمكن من الفصل بين الشعر والمحاماة كعمل ولكنه لم يتمكن من الفصل بينهما كشغف».
البيئة المحفزة
عرف والد الشاعر "محمد" في منطقته "الدريكيش" بكونه رجل دين له خصوصيته واحترامه، فهو الشيخ "كامل صالح" وزوجته "فاطمة سليمان الأحمد" المعروفة أدبياً بـ "فتاة غسان" التي حفزت أبناءها على توسيع مداركهم الثقافية وزيادة مخزونهم الثقافي من خلال التشجيع على حفظ التراث العربي والإسلامي، بحسب ما أوضحه الأستاذ "يونس كامل صالح" الأخ الأصغر للشاعر "محمد" مواليد عام /1940/.
درس والدهم الشيخ "كامل" الأدب العربي واللغة العربية والتراث الإسلامي بشكل خاص دراسة عميقة على يدي جدهم الشيخ العلامة "سليمان الأحمد"، وكذلك الأمر بالنسبة لـ" "فتاة غسان"، وهذه البيئة فرضت التأثير الإيجابي على شخصية جميع الأبناء وخاصة الشاعر "محمد صالح".
كانت بداية حياته التعليمية بحسب "يونس" بمدارس اللاييك حتى الثانوية التي حصل عليها بقسميها الاجتماعي الفلسفي والأدبي، وكان من ضمن مدرسيه حينها الأديب المعروف "رئيف الخوري"، فتأثر به فكرياً وسياسياً، وبدا ذلك واضحاً من خلال ما كتبه من شعر في تلك المرحلة المبكرة، وخاصة في قصيدته بعنوان "الفلاح" وما جسده فيها من معاناة الفلاح زمن الاقطاعية، ناهيك عن تميزه بحفظه للمعلقات الشعرية الضخمة.
تلك المرحلة كانت عسيرة مادياً على الجميع وفق ما أكده الأستاذ "يونس" خريج كلية الاقتصاد ومدرس في المعهد العالي للعلوم التطبيقية، وكانت أقرب وأقصر الطرق، والخيار الوحيد أمام الغالبية هو المؤسسة العسكرية عن طريق الكلية الحربية التي انتسب إليها عام /1947/ وقبل التخرج شارك بحرب "فلسطين".
ويتابع: «بعد انتهاء الحرب تخرج من الكلية وعين برتبة ملام أول فوراً، وفي بداية الخمسينيات جرت انتخابات برلمانية وكان داعم فيها للاشتراكيين الذين فازوا فيها، وفي عهد الرئيس "أديب الشيشكلي" سرح تعسفياً من الجيش، وعاد إلى اهتماماته الأدبية وعمل في البداية بمجلة الجندي العربي، وشارك بأول مسابقة للقصة في "سورية" وحصل على المركز الأول عن قصته بعنوان "المطر"، وكانت بمضمونها كما بقية كتاباته الأدبية منطلقة ومتأثرة بالواقع الاجتماعي الريفي البائس السائد في ذاك الوقت، ثم أعيد إلى المؤسسة العسكرية حتى زمن الوحدة مع "مصر" حيث تم نقله للعمل فيها بمهام مدنية، وبعد الانفصال سرح وعمل كمحامي بعد حصوله على إجازة الحقوق من جامعة "دمشق"».
إنتاج فكري ومهني
عمل بداية حياته الفكرية بالترجمة من عدة لغات أجنبية للغة العربية، وأنتج الكثير من الترجمات والدواوين الأدبية، وانطلق من واقع ريفه البائس وبدأ منظوره الفكري يتسع مع إجادته للغة الفرنسية بشكل كبير، وامتلاكه لمخزون ثقافي شمولي واطلاعه على الثقافة العالمية وكبار الأدباء العالميين والتراث العربي الغني القديم والحديث، وفق ما أكده "يونس" لمدونة وطن.
ويضيف: «عالج أدبياً مواضيع ومشاكل وطنية واجتماعية ومن دواوينه في تلك المرحلة "صلوات في محراب عشتروت"، وناصر بشكل ملحوظ قضايا المرأة وقضايا المجتمع العربي حيث خرج بقصيدته "بعلبكية" من المحلية إلى العربية، وكذلك بالنسبة لقصيدة "آفاق" التي اعتبرت خارجة عن المألوف بقوة تأثيرها ومضمونها في تلك المرحلة، فصحيح أنه ابن بيئة أدبية متميزة، لكنه تمكن من تجاوزها وتطويرها وترك البصمة الأدبية والفكرية الخاصة به، فكانت كلماته منتقاة ومتميزة تناسب موضوعها.
ويضيف "يونس": «خلال عمله كمحام لم يُذكر أنه خسر دعوة قضائية، ولم يسجل له مرافعته عن غير الفقراء والبسطاء، ولم يتستر على الخارجين عن القانون، فبات اسمه معروفاً ولامع في الوسط القضائي».
بدوره يذكر المحامي المهتم بالأدب "نصر يونس غانم" أن الراحل امتلك مخزوناً فكرياً كبير من خلال حفظه للمعلقات الأدبية، وتوظيفه في الثقافة الشمولية: «تميز الشاعر والأديب "محمد صالح" من وجهة نظري بشمولية أدبه، الذي تنوع ما بين المحافظة على المدرسة الكلاسيكية وما بين الشعر العمودي، حيث تمكن من ذلك كونه من الرعيل القديم المتمسك بجذور الشعر القديم الكلاسيكي، ولكنه متذوق للشعر الحديث الذي لا يعتمد على القافية، وهذا بدا واضحاً في جل ما قدمه من شعر.. شخصياً اعتبره "فارس الكلمة" لما له من قدرة التحكيم باللفظ والكلمات المترابطة والموسيقا الداخلية للنص، حيث عرف بتمكنه من لغته وجزالة ألفاظه وحبكة موضوعه الأدبي وصوره التوصيفية الدقيقة المعبرة».
ويتابع: « بيئته كانت حاضنة ومنبعاً لنهر الأدب لديه، فقد نال الكثير من شهادات التقدير الأدبية، رغم انشغاله بحل مشاكل وهموم الناس من خلال عمله كمحامٍ اختص لنفسه هموم وشجون الفقراء دون مقابل حتى لقب ب "أبو الفقراء"».
الجدير ذكره أن الشاعر والمحامي "محمد كامل صالح" مواليد عام 1926 وتوفي عام 1992 وأنجب ستة أبناء، ولديه أدبياً ديوان بعنوان "وسقط جدار النوم" وديوان "آدام وحواء" وديوان "أغنى من الشموس" ومجموعة قصصية بعنوان "حكايات حبة الرمل".