في نتاجها الشعري، تبدو سعاد محمد كناسكٍ في معابدِ القصيدة، وهي التي أخلصت بكامل جهدها الإبداعي للنتاج الشعري، ولم تُشرك به نتاجاً إبداعيّاً آخر، وإن كانت قد بدأت الكتابة ببروفاتٍ قصصية سرعان ما تجاوزتها لمناخات القصيدة، على غير ما سارت على سكته تجارب الكثير من المبدعين الآخرين، الذين كانوا دائماً ينشغلون بأكثر من جنسٍ إبداعي، وكأن القصيدة أضيق من أن تبوحَ بكاملِ جوانيّات الشاعر، فيذهب يُكمل فائضَه الشعري في أنواعٍ إبداعية تقترب أو تبتعد من فضاءات الشعر.

صومعة الشعر

سعاد محمد التي اتّخذت من طرطوس ما يُشبه الصومعة لشواغلها الشعرية، وهي القادمة من ريف المحافظة كمهندسة مدنية تعمل في قطاعها العام، مُعيدةً بالذاكرة صورةً شعرية لشاعرٍ كبير، هو نديم محمد – هنا يبدو لافتاً صدفة اسم العائلة نفسه - كان قد هجر جبلة والعاصمة، واستقرّ في مدينة طرطوس، حيث قدّم معظم نتاجه الشعري، مُقيماً صومعته الشعرية كما كان يُطلق عليها..

"كبحرٍ طاعنٍ بالموج

أقفُ أمامَ عينيك..

بصدق إلهٍ

والقلبُ حافٍ؛

يطلبُ دفءَ دروبك."

وفي صومعتها الشعرية هذه؛ تُقدّم سعاد محمد نتاجها الشعري العالي، الذي كثيراً ما فارق الخطاب الشعري في ديوان الشعر السوري، متخذةً أسلوباً ميّزها بالكثير من الملامح، ولعلّ أبرزها– وهذا يبدو لافتاً أيضاً – أنها تُقدّم هذا النتاج الشعري دون ضوضاء أو جلبة، تلك التي سعت إليها الكثيرات من الشواعر، ويأتي الاحتفاء بنتاجها الشعري بسبب أسلوبها الشعري الذي استطاع أن يفرض نفسه في الصفوف الأولى في المشهد الشعري السوري دون عناء المنافسة أو المزاحمة، وإنما بكلِّ هدأة الناسك وسماحته وزهده، وبهذه الأدوات الخاصة التي تنسجُ من خلالها القصيدة، دون استعارة أدوات الآخرين، وحتى شواغلهم الشعرية..

من مؤلفاتها الشعرية

تقول الشاعرة سعاد محمد في حديثها لمدونة وطن :"الشعر لا يعيش في جلباب العادة، وبالتالي لا تنتظر من شاعرٍ أن يمشي على درب التوقعات، فالماغوط اقتحم بوابة النثر ولم يغادره قط، والشعر لا يؤطر.. أما بالنسبة لي فكانت بداياتي البعيدة مع القصة القصيرة، ثم انقطعت فترةً طويلة عن الكتابة، لأجد نفسي متلبسةً بقصيدة النثر.." وتُضيف: ببساطة أقول إن الشاعر الحقيقي يمتلك إحساساً متوهجاً يصيب قارئه بالعدوى، فأنا صادقة إلى أقصاي مع الشعر، وكلُّ نصٍّ لي قطعة من روحي، وصوته يقولني تماماً.. ومن ناحية أخرى، أنا حريصة جداً على تطوير نصي، أسعى بدأب وإخلاص للبحث عن الجدة، وأواظب على تثقيف أدواتي التعبيرية.

من هنا كان نتاجها الذي يصدر تباعاً منذ سنة (2016 )، ، بدأته ب(الغريب - دار سوريانا ٢٠١٦)، ثم (عالٍ هذا السرج- 2018)، و(تيمنا بالورد – ٢٠٢١)، المجموعتان صادرتان عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وعن اتحاد الكتاب العرب وصدر لها مؤخراً "نذورٌ للغزال"

الأديب علم الدين عبد اللطيف

وهي في كلِّ هذا النتاج الشعري، تؤكد على التمايز ولا سيما في تأكيدها على ملمح التشكيل الشعري، من خلال قولها القصيدة الناضجة والمكتملة بالصور الشعرية، حتى كأن الشاعرة تدخل أكثر صوب التشكيل، لكنه التشكيل الشعري ابتداءً من استخدام "الفحم" لتقديم صورٍ بالأبيض والأسود، إلى الصور التي تأخذُ من كلّ لونٍ ضربة ريشة، وإذا كان الرسم شعراً صامتاً، فهنا الشعر رسمٌ متكلم على ما يرى "بلوتارخ".. وهي التي تقول عن غايتها الشعرية في كلِّ ما تقدمه من قصائد: "نكتبُ لننقل جبلَ الهمومِ كلمةً كلمة.. بعيداً عن قلب الأرض الأخضر.. ثمّ نغطيه بغاباتنا المجازية".

"السميعاتُ العليماتُ نحنُ

ناهداتُ الصّبر

الصغيرات.. الصغراتُ

كأزرار قمصانكم

المُعتقات كأحضان أمهاتكم

المنمنمات كحبات الندى."

تبدأ الشاعرة من كتابة القصيدة التي تمشي على الإيقاع الطويل، وليس الاكتفاء بالوثبات الشعرية، كما يبدو اليوم القول الشعري الذي يأتي إيماضاً – ومضات تسبح في فضاء البياض. بل حتى من شكل القصيدة وشواغلها إضافة إلى الفعالية الشعرية التي تكمن في اصطياد الصور من خلال إعادة تركيب المفردات في أنساق وسياقات جديدة، حيث تكمن الشعرية في هذا الانزياح الجديد. فيما اللغة التي تنوس بين التراتيل والترانيم أو ما يُشابههما، وصولاً لحد التهكم اللطيف غير الجارح الأقرب إلى العتاب، وما بين المستويين تسترسل الشاعرة بمناخات مُفعمة بالرومانسية.

الأديب غازي أبو طبيخ

منهجية بالغة الخصوصية

يذكر الأديب العراقي غازي أبو طبيخ في شهادته عن تجربة سعاد محمد الشعرية : "شاعرة النثر الشامية المهمة كمبدعة تستحق منا الكثير من الاحترام وحسن المتابعة كونها أديبة ذات منهجية بالغة الخصوصية شكلًا في جانب، وعميقة المداليل مضموناً في جانب آخر"

إنها ذات خصوصية لافتة جداً على مستوى المباني على وجه الخصوص في ناحية جديرة بالبحث والمدارسة، انتقلت بأداتها التعبيرية إلى مراقٍ عالية بالإفادة الجمالية لا بقصد الاستعراض التعبيري أبداً، وإنما بقصد توسعة إهاب وآفاق الأداة التعبيرية ذاتها بحيث تتسع لأعمق المحمولات العصرية إفادة معنوية فكراً وحدثاً.

ومن الجدير بالاشارة- وتلك رائعتها الفارهة- إلى أنها تنطلق في منهجيتها تلك من الجذور التعبيرية العميقة للموروث الحي بأصالة بارعة فارعة.. فهي حين توظف علوم البلاغة العربية الأصيلة، بشكلٍ فخم وصقيلٍ معاً، فإنها قد وصلت بها الى مرحلة بالغة الرشاقة، بعيدة تماماً عن الترهلات أو الحشو التعبيري الزائد ..

إذاً هناك رسالة تحملها هذه المبدعة الأصيلة، رسالة تقصد من خلالها بوعي فطين إثبات أنّ السياق العربي الضارب في أعماق الموروث قادر بمرونة عالية على التعامل الحيوي مع آخر الحداثات الرؤيوية والفكرية المتداولة في هذا الزمن المحتشد بالغرابة.

صعب جداً-على غيرها- ما تفعله سعاد، إنها تحاول أن تكسر الحواجز بين الفلسفة والشعرية.. بين الوعي العميق والمشعر السيكولوجي الشديد الرهافة، فتخلق مدمجاً متخماً بالحياة تخامر به النفس، من دون أن تفقد الوعي!

لقد تمكنت الشاعرة من تخليق نوع من أنواع الإكسير الشعري، ذلك المزاج التعبيري الجامع بين العمق الرؤيوي والوجدان المخصب بأصدق الأحاسيس والعواطف الإنسانية، وهو ما نصطلح عليه شخصياً اسم(المركب الحيوي)، وهو الكائن الشعري الحي الناطق عبر أداةٍ تعبيريةٍ صقيلةٍ وعميقةٍ لاحشوَ ولا فَضْلةَ فيها، وذلك ما يمسك بمشاعر المتلقي فلا يفيق من لذة الحلول في تفاصيل النص، بل من لسعات سياط النص الحميمة والموجعة معاً، إلا بعد أن يكون النص ذاته قد تمكّن من رأسه وقلبه!

مع أنها شاعرة نثر، ولكنها من الثلة النادرة التي أثبتت شعرية قصيدة النثر الباذخة، قصيدة النثر الإنسية بكل ما في الإنسان من دخيلة(فكراً ونفساً وذاتاً وضميراً جمعياً)..

إتقان المعلم

ونختم مع رأي الأديب السوري علم الدين عبد اللطيف الذي يقول عن هذه التجربة الشعرية: "سعاد محمد شاعرة من طراز فريد، نجحت في تشغيل أدوات الشعر بإتقان المعلم، وشغلت شجاعتها في نص مختلف، نص غني بالتجدد والتوليد المستمر، ولم تتوان عن صنع مشهدية شعرية تليق بموهبتها، وبمقام الشعر.

سعاد ترتقي بشعرها إلى مستويات تجريد المفردات الظواهر، تثق بشعرها الذي يمكنه تقديم الحالات منفردة ومجتمعة بطريقة شعرنتها، وتطعيمها بكيمياء الشعر.. وفي كل ذلك، تمدُّ الشاعرة أثواب شعرها ملونةً بأدوات من صنع مخيلتها، لا تعيد صياغة الأخرين، تصوغ جملتها الشعرية كمن يحتكر طريقة مسجلة باسمه، ليس لديها مساحة مجانية، كلُّ كلمةٍ لها هندستها الخاصة بها. يقولون هي بصمة الشاعر لكنها أكثر من بصمة.

يتابع عبد اللطيف حديثه:سعاد تدرك تماماً الحدود الفاصلة بين الشعر وبقية الأجناس الأدبية، وتعرف كيف تلجم الخوطرة التي تنبع من الذات وترتد إليها، تعوذ بالشعر وتعود إليه بدقة من يعرف مهمته.. تعرف أن مقاربة الفضاءات المختلفة لا يفيها حقها غير الشعر.. أتقنت المجاز الشعري، ومفارقة المفردة للسياق، لم تكتف به أداة في كتابة قصيدتها. هي عرفت كيف تصنع حياة النص عبر ابتداع سجال داخلي معلن فيه، سجال يقوم مقام النبض، حياة حركت القصيدة بنبض عرفت كيف تواكبه وتغنيه. تساجل النص ذاته، وتساجل الحالة، عبر أسئلة الاستفهام وتوكيد العارف، أسئلة بلاغة الشعر ذاته، أسئلة المتخيل، تؤنسن كل ذلك، تخالف وتساير.

ويضيف: كما تعرف الشاعرة قيمة اللغة لدى القصيدة، واللغة هي ثقافة القصيدة، ولا تفرُّ منها متجاهلةً قيمتها، بل تخضعها لخصوصية الحالة في الجملة الشعرية، وتفسح لها المجال لأداء دورها حين الحاجة، وتلجمها حين تبدو منتشية بعدو فرس البلاغة، فتندغم اللغة راضية بتصييغاتها.

سعاد الشاعرة التي لم تقيدها محددات القصيدة النثرية، التي أرساها زمن يعرف أن شعراء سيأتون ويتجاوزون قواعدها.. شعراء هم أبناء حياة تعرف كيف تصنع أجيال الإبداع على مقاس زمنهم.