كثيرة هي الأعمال البحرية التي دخلت إليها "الملالي" كلغة بحرية تحاكي واقع الحياة البحر القاسية التي عاشها البحارة القدماء، بما تنطوي عليه هذه اللغة من مناجاة للآلهة لتحفيزهم وتقويتهم ودعم صبرهم، وخاصة أولئك الذين سكنوا الشواطئ الساحلية وجزيرة "أرواد" بالذات.
وتكاد تكون مفردات تلك "الملالي" من الذكريات المهددة بالاندثار لولا بعض الرياسة الذين ما زالوا يحفظون بجزء منها حتى يومنا هذا.
ما تزال بعض كلمات "الملالي" البحرية الطويلة تطرق ذاكرتي بين الحين والآخر وتقول مفرداتها: "ببوري رايح رايح ببوري جاي ببوري محمل سكر وشاي، دخلك بالله عجل يا ببور على دقة قلبي لف ودور، بيني وبينهم سبع بحور دخلك عجل شوي شوي"، وهنا قد يستغرب البعض لكنة المفردات، حيث كانت قديماً المراكب الكبيرة تسمى ببور بحري ولم تكن للحدود قيمة بحرية بين البحارة
"هيا أليسا"
كان البحارة ينسجون كلماتهم بما يتناسب ويتناغم مع طبيعة أعمالهم البحرية، كتحصيل المراكب ورحلات الصيد والرحلات التجارية، ولكن هذا التراث الاجتماعي البحري الخاص بأولاد البحر - كما يسمون أنفسهم - مهدد بالاندثار ما لم يتم حفظه وإعادة الحياة إليه، فهم يعزون قلة الاهتمام به نتيجة الظروف الصعبة التي يعيشها البحارة بالعموم، فهم لا يؤمنون بالحدود الجغرافية في البحر، فالتنقل عبرها بالنسبة للبحارة عادة ما يكون كما التنقل بين حي وآخر بالنسبة لسكان البر، ما أسهم بتمازج ثقافي لغوي اجتماعي منذ زمن الفينيقيين.
ويرى البحار "خالد عثمان" في العقد السادس من العمر، أن مفردات "الملالي" البحرية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحياة أبناء البحر، واستخدمت بشكل عام خلال عمليات الانطلاق للرحلات البحرية التجارية العابرة للبحار، فهي تعطي الحماس والإثارة وتلهي البحارة عن فراق الأحبة، وتقول كلماتها "هيا أليسا هيلا هيا أليسا هيلا"، وبعدها تنسج الكلمات ذات المعاني، وكانت في كل مقطع تكرر ثلاث مرات، وكان البحارة يعتبرونها بداية أغنية القوة والعزم.
وحسب الأحاديث المتواترة فإن اسم العلم وهو "أليسا"، هو اسم آلهة فينيقية قديمة كان يستعان بها للعمل المجهد خلال عمليات رفع المركب الشراعي من المياه لصيانته، أو ما يعرف بحرياً بالتحصيل وفق الصياد والبحار "مأمون عثمان" ابن جزيرة "أرواد".
آلهة القوة والثبات
كانت "الملالي" البحرية تطلق بأسماء عدة آلهة فينيقية هي "أليسا- هكيريا- هيوريا- آليستا" وينادى بكل منها على حدة في دلالة على حركة معينة يجب على البحارة التقيد بها خلال عمليات الرفع، وتنفيذها حرصاً على سلامتهم ومنحهم القوة والعزم والصبر والثبات، وتقول مفردات أول مقطع من الملالي البحرية وتنادي باسم "أليسا" "هيا أليسا هي هيا أليسا هي" وينادى بهذه الآلهة خلال عملية دفع المركب الشراعي بقوة كبيرة حركتين نحو الأمام.
وبعدها ينادى باسم الآلهة "آليستا" فيقولون "آليستا هي آليستا"، وهي" للثبات والصبر على ضغط العمل ومنع رجوع المركب الشراعي بفعل وزنه الكبير بعكس عملية الدفع نحو الأمام التي يقومون بها، وخلال ذلك يُنادى باسم الآلهة "هكيريا وهيوريا" لأرجحة المركب الشراعي نحو اليمين واليسار لتخفيف وزنه الثابت خلال عملية الدفع، فيقول مقطع الملالي هنا "هكيريا هي هيوريا هي هكيريا هي هيوريا هي"، وبعدها "هيا أليسا هي هيا أليسا هي" للدفع مجدداً.
تطور "الملالي"
ويتابع البحار "عثمان": «بعد دخول الإسلام إلى حياة البحارة تطورت مفردات "الملالي" البحرية وادخلت إليها اسم النبي "محمد" عليه الصلاة والسلام بدل أسماء الآلهة، وباتت تقول الملالي "عالنبي صلي هيلي وعالنبي صلي هيلي"، وتكرر عدة مرات ويعقبها "ملالي" رديفة تقول:
وترابيها هيلي وترابيها هيلي وبحريها هيلي وبحريها يا قاسي والجوني ياما قطع مراسي والجوني ياما وجعني راسي والجوني ياما عدلي راسي، وترابيها عالزعفراني حتى علاويها هيلي، بالدمع رواها أحمدُ محمد بالدمع رواها وهيلي هيلي بالدمع رواها وعالنبي صلي هيلي وعالنبي صلي هيلي"».
ويضيف: «عرف بحارة جزيرة "أرواد" القدامى بقوتهم وخصوبتهم العالية وكانوا يتزوجون نساء من خارج الجزيرة نتيجة التعاملات التجارية، ما أثر في بعض مفرداتهم في "الملالي" البحرية التي كانت تطلقها نساؤهم في استقبال البحارة حين عودتهم من رحلتهم البحرية، فيقلن خلال عمليات الانتظار وظهور المراكب البحرية قادمة في عرض البحر: "من الغربي بان ده ملك مين؟" فيرددن في جواب للسؤال "ده ملك ابن عثمان يالله هي"، ويرددنها عدة مرات في "ملالي" غنائية لها لحنها البطيء الخاص بها ومفرداتها التي لم نعد نذكر منها شيء لعجم تداولها أو حفظها».
وكذلك بالنسبة لبحارة مدينة "بانياس" الذين جابوا مختلف بحارة العالم، كان من الصعب جداً الحصول على الميراث الغنائي البحري لديهم، فالأغلبية لم يكترثوا بعملية الحفظ أو التداول للحفظ بسبب طبيعة حياتهم البحرية الصعبة جداً، فهم يخرجون من منازلهم بداية الليل ولا يعلمون إن كانوا سيعودون إليها مرة ثانية، وهذا من أهم أسباب الإهمال في حفظ أو نقل الأغاني البحرية التي عرفوها في فترة زمنية غابرة.
البحار القديم "عبد الله يحيى" في منتصف عقده السابع من مدينة "بانياس" أحب "الملالي" وحفظ شيئاً مما كان يردده البحارة، حيث يؤكد في حديثه لمدونة وطن، أن "الملالي" التراثية البحرية المحلية، لم تختلف كثيراً عن "الملالي" التراثية في حوض البحر المتوسط كمنطقة شرقية، إلا أنها تمايزت عنها ببعض الكلمات التي ارتبطت بحياة البحارة والبحر، كملالي قديمة جداً تقول مفرداتها "ببوري رايح رايح ببور جاي ببور محمل سكر وشاي".
وكذلك "الملالي" الأروادية تم إدخال تعديل بعض الكلمات فيها لتناسب زمان ومكان مختلف مع المحافظة على لحنها وموسيقاها العامة، وبحسب البحار "سمير حمودة" الذي يؤكد أنه يتذكر جيداً زمن المركب الشراعي، حيث كان والده يعمل على متن مركب شراعي يعود لجده، وكانت "الملالي" تردد للرياسة البحريين فقط أي القباطنة، وتتوالى مقاطعها على ذات الوتيرة التي تقول مفرداتها "ياريس الشختورة ده ملكك ولا ضمان، دي ملكي وملك أبويا خلفه من زمان يالله هي"، وتتمازج المفردات فيما بينها وتخرج بلهجة بحرية تتناسب وجميع أبناء البحر من أي بقعة جغرافية كانوا.
"ملالي" للعشاق
"محمد يحيى" الخمسيني البحري تذكر "ملالي" بحرية قديمة لها توظيفها البحري الحقيقي في حياة العشاق منهم، حيث كانت مفرداتها لطيفة تداعب خلجات النفس أكثر من سابقاتها المرتبطة بقساوة الحياة البحرية بالعموم، وتقول مفرداتها
"يا حلوة تداعب بحار
قبطان بالبحرية،
فوق المركب ليل نهار
وشتوية مع صيفية، شفتك شعلت بقلبي النار
وغرقت ببركة ميه".
ويتابع: «ما تزال بعض كلمات "الملالي" البحرية الطويلة تطرق ذاكرتي بين الحين والآخر وتقول مفرداتها: "ببوري رايح رايح ببوري جاي ببوري محمل سكر وشاي، دخلك بالله عجل يا ببور على دقة قلبي لف ودور، بيني وبينهم سبع بحور دخلك عجل شوي شوي"، وهنا قد يستغرب البعض لكنة المفردات، حيث كانت قديماً المراكب الكبيرة تسمى ببور بحري ولم تكن للحدود قيمة بحرية بين البحارة».
وتأكيداً على ذلك يشير البحار "خالد عثمان" إلى "ملالي" بحرية قديمة جداً تجمع فيها أسماء عدة دول بحرية، فالحياة البحرية كانت وما زالت مفصولة تماماً عن حياة اليابسة، فلأهل البحر حياتهم الخاصة وطقوسهم الخاصة، حيث تقول مفرداتها:
"هزي جناحك يا وزي من باريس إلى غزة
ولعملك صحن فتوش ويلي بيسكر بده يطوش
ودخلك يالحامل فانوس دورلي عالوزة.