في قرية (رويسة الحجل) في سفوح ريف جبلة على الساحل السوري، كانت الصرخة الأولى ل(محمد عُضيمة)، وعلى ما يؤكد، هي لم تكن صرخةً أطلقها – كما يفعلها كلُّ المواليد الجدد حين قدومهم على هذه الدنيا – وإنما كما تروي له الداية التي أنجزت ولادته بأنها كانت ضحكة.. وهو لا يملُّ: يُردد، ولدتُ ضاحكاً ومُبتسماً..
سلوك حياة
"لا شيء لكم عندي
أبداً لا شيء، إذا ما قرأت قصائدكم بالمقلوب
لا يهمني أن يعرفني الخيل ويعرفني الليل، بل يهمني أن يسمع بي جاري، ولا أريد أن أكون مالئ الدنيا، وشاغل الناس أريد أن أملأ ثيابي، وأشغل بال حبيبتي
كما يرتدي الأطفال ثيابهم
أو صنادلهم بالمقلوب.."
تلك "الابتسامة" التي ستُشكّل سلوكاً في الحياة، وأسلوباً في الكتابة، وعيش الحياة بأقل ما يُمكن من التعقيد والخسارة.. وفي (رويسة الحجل)، التي ولد فيها ضاحكاً سرعان ما غادرها إلى دمشق، لينال من جامعتها الإجازة في اللغة العربية، هذه الشهادة التي ستجعل منه "كائناً لغوياً"، أو قلْ كائناً قُدَّ من لغة.. حيث ستكون الجزائر وعاصمتها أولى انطلاقته في هذا العالم، كرحّالٍ عاشقٍ للغات والعالم، حيث يتعرف هناك على اللغة الفرنسية، ومن ثمَّ ليشدَّ الرحال صوب عاصمتها (باريس)، وليحطّ الرحال أخيراً في أقصى العالم عالقاً بأرخبيل اليابان، ومستطيب العيش في عاصمتها (طوكيو).
الهجرة من مكانٍ لآخر للشاعر محمد عُضيمة، كان لها هجرة مماثلة في شكل الكتابة، إذ تطغى الأماكن (دمشق وباريس والجزائر ووهران وطوكيو)، ولكلِّ مكانٍ مفاتيحه الخاصة، وجدرانه الخاصة.. وهو لا يسعى أبداً إلى توحيدها، لذا تتعدد نصوصه، ولايأسره شكلٌ واحد للقصيدة، ومجموعاته الشعرية التي ربما تجاوزت العشر، دلائل على ذلك..
"لاأحب تاءك المفتوحة أيها الموت..
تاؤك المفتوحةُ مثل قبر،
كلما نزل فيه واحدٌ؛
يقهقه صارخاً: هل من مزيد؟!
أيها الموت، الذكر
أيتها الحياة، الأنثى
ألأنك أنثى يحبك الجميع
ألأنه ذكر لا يحبه أحد..!!"
ما يُميز تجربة صاحب "الشعراء يلتقطون الحصى" الشعرية والنقدية، هي جرأته في اختيار اللغة واستعمالها، والخوض فيها دون خوف، يكتب ليحرر نفسه أولاً وأخيراَ من سيطرة الذهنية، ولتحرير الحواس التي كانت تعمل لصالحها، ومن فحولات اللغة، وجزالة العبارة و"عظمة" الأفكار..!
وعضيمة شاعر يعرف أنّ كلّ مايُحيط به، وبلا استثناء مليءٌ بالشعر، ويمكن تحويله إلى لغة، وهي تجربة لاتخلو من الصعوبة، لذا كان إلحاحه على الحواس، كنافذة للوصول إلى الشعري، وذلك بالمعايشة والتجربة، لأنه قد تكون الحياة المعاشة أكثر شعرية من الكتابة عنها، من هنا كان شعره، لا يأتي من مكانٍ غرائبي، وفي مفرداته المحسوسة والمرئية، واستعمال الأشياء، ليسا أمرين سهلين، لذا كان عليه هدم الأسوار، التي تحول دون ذلك، ليرى الأشياء في براءتها ولطفها وحيادها.. ومن ثمّ فقصيدته، يكفيها شيءٌ من التخييل والوزن الخفيفين، "أما أن تكون القصيدة من ألفها إلى يائها كتلة متراصة من الصور الذهنية التي لاعلاقة لها بخبرة بشرية ولا نباتية ولاحيوانية، وكتلة متراصة من الإيقاعات الصاخبة كأنك في ديسكو تديره الطبول، فهذا ما جعله يقف على النقيض.." على ما يقول:
"هو اللايكفُّ
عن كتابة القصائد الحزينة،
مثل عانسٍ ماتَ جارها
التقيتهُ صدفةً؛
وكان في عينيه
يأسٌ جديد."
فن الهايكو
وهذا ما دفع صاحب "شارع الألبسة الجاهزة" ومنذ بداية التسعينيات لإعادة النظر في كلِّ ماكتب سابقاً، ليقول ويعيش على ضوء تفعيل الحواس الخمس التي كانت مُعطلة بفعل التربية الذهنية، أي إعطاء الأهمية للفكرة على حساب الواقعة، أو إلغاء الأخيرة بتجاهلها.
لم يكتفِ الشاعر محمد عُضيمة بالقصيدة المُفارقة للديوان العربي بشكلٍ عام، وديوان الشعر السوري خاصةً، وإنما كان له إسهاماته الهامة في الترجمة، لا سيما من اللغة اليابانية، الذي كان من أهم عرابيها، ويعود له الفضل في تعريف العالم العربي بفن (الهايكو) الياباني ونشر هذه الثقافة التي "ورطت" المئات في مقاربتها عسى أن يجدوا (المُعادل) العربي لهذا الفن الياباني العريق، وهو المُتشرب للغتها وثقافتها، حيث تعد ترجماته لنصوص الهايكو الياباني مرجعاً رئيساً لكلِّ متطلع لهذا الفن، فقد ترجم لأهم مبدعيه القدماء، حيث في كتابه «بريد الهايكو الياباني» ترجم (1950) نصاً ل"إيسا كوباياشي"، وفي «كتاب الهايكو الياباني» بالاشتراك مع المستعرب "كوتا كاريا"، ضمَّ بين دفتيه ألف نص ونص تراثي لقامات الهايكو الياباني، أما مؤسس هذا الفن «ماتسو باشو» فخصّ كلِّ أعماله بترجمة في كتاب «أعمال ماتسو باشو الكاملة»، كما ترجمَ ديوان «البابا الطائر في السماء» للشاعر الياباني المعاصر "بانيا ناتسو إيشي".. وترجم إبداعات أخرى غير الهايكو منها: "كوجيكي: الكتاب الياباني المقدس، حكايات يابانية قديمة، وحكايات المعبد الياباني"، إضافة إلى اشتغالاته على قراءة الشعر العربي وتقديمه بمنظور مختلف، ويتجلى ذلك في سلسلة «ديوان الشعر العربي الجديد» التي خصص فيها لكل إقليم عربي كتاباً..
وكانت له سجالاته التي لم يخمد صداها منذ عقود، عندما أوغل تشريحاً في النصوص الشعرية العربية، واختزالها في "بيت القصيد" فقط، "سالخاً" عنها كل الترهلات والدهون كما يفعل جرّاحٌ تجميل ماهر مُتحملاً كل كيل الاتهمات والتجريح الذي كان يصل أحياناً للشتائم.
"أعجبتني الحكاية،
ولمْ أعدْ أحتمل الكناية والاستعارة،
ومتاريس الصور، ومقاييس الإنارة،
في صفحة أو صفحتين من الكلام..
الأرزةُ صادقة، والحورُ، والدلبُ
وطريقُ الإسمنت أيضاً.."
في الشعر والنقد
ومحمد عُضيمة الذي أنجز إلى اليوم عشرات الكتب في الشعر والنقد والترجمة منها: «الميامر والتساعات التابعة، ما حدث في السينما، النهار يضحك على الناس، الشعراء يلتقطون الحصى، يوميات طالب متقاعد، تثاؤب حديث جداً، لا لا لن أعود إلى البيت، يدٌ مليئة بالأصابع، شكراً للموت، و.. أصلُ بعد قليل»، تلك بعض من المجموعات الشعرية، وهي مجموعات متكاملة تهدف إلى تكريس مشروعه المبتسم، كما يُقدم عُضيمة مشروع قوله الشعري، وذلك في تلك القصيدة التي تهرب من فحولة اللغة، ووحش شمولية الأيديولوجيا أياً كان هدف تلك الأيديولوجيا وصولاً إلى قصيدة تُلمس وتُحس بيقين الأصابع، والفرق بين مجموعة وأخرى يرتكز على درجة تظهير ملامح هذا المشروع والابتعاد ما أمكن عن أجواء الشعر المطروح في السوق.
ومحمد عُضيمة يُردد دائماً: «لا يهمني أن يعرفني الخيل ويعرفني الليل، بل يهمني أن يسمع بي جاري، ولا أريد أن أكون مالئ الدنيا، وشاغل الناس أريد أن أملأ ثيابي، وأشغل بال حبيبتي». وعندما نسأله: ألهذه الدرجة قزمت الشاعر ومهمته؟ كان يُجيب دائماً: "بالعكس تماماً، هذا ليس تقزيماً للشاعر، بل هو إعادته إلى جادة الصواب، إلى ذاته أولاً وإلى محيطه ثانياً، هو إعادته إلى إنسانيته وإلى مسؤولياته.. أي دنيا يريد أن يملأ أفضل من دنيا ثيابه، وأي بال يريد أن يشغل أفضل من بال حبيبته.. ذلك إن أعظم شاعر هو من يقنع حبيبته أولاً به كإنسان وكشاعر!".. تلك المجموعات الشعرية، إضافةً لعشرات الكتب النقدية والترجمات، حتى كاد أن يُشكل هذا الشاعر مؤسسة بشغله الذي لا يكلُّ أبداً، حتى بات يُمكننا القول بمذهبٍ شعري «عضيمي»، مذهبٌ يتمرد على كآبة الكلمة كما يصفونه.. ومن ثمّ فإن محمد عُضيمة بتلك الجرأة التي يحسده عليها الكثيرون، وبتلك الإشكالية التي يحسده عليها الكثيرون أيضاً، فهو إذاً يملأ الكثيرين، ويعرفه الكثيرون أيضاً أكثر من حبيبته وصديقاتها، وأقنع العديدين لدرجة صار المتأثرون بمشروعه، وقوله الشعري أكثر من أن يحصوا.!
"عيناي صغيرتان
وتعشقان التلصلص
على نحور النساء
فبيننا منذُ الطفولة
عينيّ الصغيرتين وأنا،
تواطؤٌ وحبٌّ قديم."
الذهاب نحوالأقصى
يذكر الناقد طارق عبد الواحد: "لا أحد يعرف بالضبط فيما إذا كان الشاعر محمد عضيمة قد ذهب الى شرق آسيا البعيدة بالملامح اليابانية أم أنه عاد بها من هناك.. ومع أنه لا يتحدث عن ثقافة الساموراي، ولا يحاول أن يقنع أحداً بأكل الأرز بالعيدان الخشبية كما يفعل اليابانيون.. إلا أن الرجل يُناضل في إعادة تشكيل وعيه الشعري. فمحمد عضيمة القادم من تاريخٍ شعري راهنَ على المجاز طوال خمسة عشر قرناً وأكثر، قرر أخيراً ـ وبعزيمةٍ يابانية ـ أن يعرض عن الحفر والتنقيب في اللغة، وأن يتعامل معها في مستواها الأول، في حقيقتها اليومية ودلالاتها الأولى، وإشارتها المباشرة!!.." ويُضيف: محمد عضيمة شاعرٌ يكتب كما لو أنه يشيرُ بإصبعه، مهملاً تاريخ اللغة العريق، كما لو أن اللغة وجدت فقط لنستعيض عن الرؤية والشم واللمس والسمع والتذوق. ويجاهد ـ باستمرار ـ ليكون شاعر الحواس الخمس، رجلاً ضد الميتا.. التي تعني: الما وراء، ولذلك هو ضد الميتا لغة، وضد الميتافيزيق، وضد الميتا شعر نفسه!!"
ونختم مع الروائي خليل صويلح الذي يقول عنه على هامش إصدار كتابه (الذهاب نحوى الأقصى): كأنه ابن المسافات والطرق الموحلة، ذلك أن محمد عُضيمة (1954) لم يستقر في مكان.. وإذا بقريته «رويسة الحجل» في الساحل السوري تنأى بعيداً كذكرى ضبابية، إثر ترحاله الطويل، لتقذف به الأقدار أخيراً إلى الأرخبيل الياباني. هكذا مزج صاحب «لا لن أعود إلى البيت» بين أبجدية أوغاريت وتلك الأحرف الغرائبيّة للغة اليابانية ما يسميه عبد القادر الجموسي «المغامرة اليابانية» في حواره مع محمد عُضيمة، ومن ثمّ ليتجاوز الحوار العابر نحو ما هو أعمق في فحص شيفرات الشاعر السوري الذي صار يابانياً حتى في سحنته. ثلاثة عقود في تدريس لغة الضاد من جهة، وتعلّم اليابانية من جهة أخرى، وضعته في مهبّ مغامرة تشبه مغامرات الرحّالة العرب القدامى، بفارق أنه انخرط بالثقافة اليابانية، وعلى نحو أدقّ بثقافة شعر الهايكو، وتصديره إلى خارج حدوده بقصد تعميمه عربياً، واستثمار معنى الكثافة والتقطير بدلاً من المطولات الشعرية في مختبر جديد أطاح النص الأصلي لشعراء عرب، وذلك ببتر الأعضاء الفائضة للبنية الإيقاعية بما ينتهي إلى فراشة بجناحين ملوّنين فقط.".