لا تركن مرفت علي على ثابتٍ، فقد عُرفت أكثر ما عُرفت بتحولاتها، وكان "المتحوّل" لديها، علامة فارقة في مسيرتها الأدبية والإنسانية، وربما "الثابت" عندها كان هذا الشغف بالحياة، وتسجيل المساحة اللائقة لها في المشهد الثقافي السوري، وكان أوّل ما أطاحت به (اسمها)، فغيرت الاسم الأول، واحتفظت باسم العائلة، أو الكنية، فكانت (نجلا) التي أمست (مرفت)، وكانت أن بدأت بالقصة حتى تميزت بها، وكان الظن أنها ستكون إبداعها الوحيد، وإذ بها تركنه جانباً لبعض الوقت، لتحجز لها أمكنتها في غير إبداع، فهي مدرّسة اللغة العربية، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وشاعرة وقاصة وروائية وباحثة، لها إسهاماتٌ متنوعة في القصة القصيرة والرواية والمسرح والشعر.
ريف ومدينة
تلك كانت بعض ملامح التجربة الإبداعية لبنت الريف الطرطوسي، (قرية مجدلون البستان)، والتي وجدت متنفسها في طرطوس المدينة مستعذبةً جوار البحر، وهي تتأملُ مزاجية أمواجه التي تتلاطمُ في داخلها بين الهدوء والمائج، وعالي الموج والمزاج، وهو الأمر الذي كانت حصيلتُه مجموعةً ملونة قاربت من خلالها الأجناس الإبداعية التي أسلفنا ذكرها، والتي نالت عليها عشرات الجوائز الأدبية، سواء داخل سورية أو خارجها.. والأخيرة ملمح آخر في مسيرة هذه الأديبة في تلقي الجوائز التي تُكرّم نتاجها الإبداعي، وقلة من المبدعين السوريين حصل عليها.
ومن ملامح هذه التجربة أيضاً غير التنوّع كقلم متعدد النتاجات الإبداعية، وحصد الجوائز؛ أنها حاولت مخاطبة المتلقي في مختلف المراحل العمرية، فلم تكتفِ بتقديم نتاجها للكبار فقط، وإنما خصصت حصةً لا بأس بها متوجهةً من خلالها للأطفال، حيث وشت كلَّ ما سبق بوشاحٍ من التهكم والسخرية الساحرة، وهذه أيضاً من ملامح الكتابة عند الأديبة مرفت علي.. فعن أحدث ما أصدرته في مجال القصة القصيرة، وأقصد مجموعتها القصصية (أقاصيص متمردة) تقول: "كان ولا يزال لديَّ طبعٌ ساخر تهكُّمي، غالباً ما أطمسهُ في شخصيتي منذ الطفولة، فلا أُبرز له مخالبَ أو أنياباً كي لا أجرحَ مشاعر أحد، ولكنَّ السخرية ــ كما عبَّر عنها الأديب حسن م. يوسف ــ هي وسيلة لضمان التوازن في هذه الحياة، لذا أجدُني كثيراً ما أتسلَّح بها، وأُبطِّن بها عباءاتِ كلامي ودواخلَه.".. فالواقع السياسي والاجتماعي والمعيشي العام يفترضُ النقد والتعرية والشَّجب والانحياز التام إلى صفوف الإنسان المحطَّم والتَّخندُق بخنادقه، وعندما يُعرِّي الكاتب الحقائق ليسَ من ورقة التوت فقط، وإنَّما من جِلدتها.. فإنَّه يتنفس هواءَ الحرية، ويتخفَّف من الثقل الجاثم على صدره ودماغه.. والكتابة برأيها فعلٌ مقاوم، هادمٌ بانٍ، واللغة أُلعوبة من ألاعيب التَّعبير، وأداة جِراحة مِشرطيَّة، تثقبُ وتجرحُ، لِتداوي وتُبلسم الجراح غداً وبعدَ غدٍ.
الأدب الساخر الذي تراه دليلاً على جودة الأدب وتماشيهِ مع روح العصر القائمة على المُتضادَّات والمفارقات والمتناقضات، ومهمَّتهُ النقد والمحاكمة لغايةِ التصويب وتصحيح الأخطاء بأسلوبٍ مُمتع مثير ميَّال إلى التندُّر والفكاهة.
ولهْ التنوّع
أما عن "لغز" هذا الميل للتنوّع في الكتابة؛ فتذكر: إنّ المسألة أبسط من أن يعقِّدَها الزملاء، فمن حقِّ أيِّ كاتب أن يتبع أهواءَه في التجنيس الأدبي، فالفكرة تختار سمْتها الخاص ولباسَها الذي يستمدُّ مشروعيَّته من العفوية وطبيعة الفكرة، فإذا اقتضى الأمر التكثيف والتلميح والتحليق بالخيال المركَّز والاحتفاء بالرمزية، بحثْنا عن فلترة الكلام وإخضاعه إلى الضغط العالي والاختزال والتقنين على طريقة الشعر ومُريديه، والميل إلى الشعر بعد اطّلاع مكثَّف ومديد منذ أيام الجامعة على تجارب روَّاد شعر الحداثة، وكنتُ بدأتُ في المرحلة الثانوية بكتابة الشعر العمودي بإتقان، ووجدتُ مع الزمن أنه يُقيِّد التوجُّه الفكري والتعبيري لديّ، فانصرفتُ إلى كتابة شعر التفعيلة ومؤخراً النثر، وأصدرتُ ديواناً شعرياً في المغرب على نفقة إحدى دور النشرـ والكتاب الثاني سيُطبع على نفقة وزارة الثقافة السورية، ومنذ عامين وأنا ألمسُ تشجيعاً كبيراً من المتلقِّين ومن بعض النقاد كي أُثبِّت أقدامي في تُربة الشعر وأُجذِّر هويتي الخاصة، وجاءت مشاركتي في مهرجانات إربد عاصمة الثقافة العربية تكريساً لهذه الانعطافة المائزة في مسيرتي التي تخطَّت ربع القرن..
عن الرصيد
وبرأيها: التنوع في الإصدارات الأدبية تفرضه أمورٌ عدّة، أولها: فكرة العمل الأدبي التي تختار قالبها المناسب وشكلها التعبيري الأكثر ملاءمة، فالنقد التاريخي والاجتماعي للمعاناة المتكررة في حياة الناس تناسبه الرواية أو القصة القصيرة، أما السخرية والمرح اللتان تستدعيان تعدداً في الشخصيات والمواقف فيلائمهما النص المسرحي وثانياً: تؤدي كثرة مطالعات الأديب لكتابات السابقين دوراً في اختيار الجنس الأدبي..
فأنا ممن قرؤوا القصة والرواية والمسرح والشعر وبعضاً من النقد؛ لذا تجدني متنوعة في إصداراتي، لأنّ لكلٍّ من هذه الأشكال الأدبية التعبيرية ضرورته في مكانٍ معين..
وكان التنوع فيها مهارة وتمريناً جيداً أفادها وأغنى تجربتها الإبداعية ونال استحساناً عاماً وكسر الرتابة والملل في حياة الكاتب، حيث يقتضي التجريب التطلع إلى جنس أدبي جديد يضفي إثارة وتشويقاً على المنتج الأدبي وعلى ملكة الإبداع ذاتها، إضافة إلى الجوائز الأدبية وبمعنى آخر (المصادفة) التي أسهمت في توجهي وتوجه كثير من كتابنا إلى أجناس أدبية لم يكونوا مختصين بها سابقاً أملاً في سرقة الأضواء والحصول على مبلغ مادي يعينهم على نفقات الحياة..
جوائز كالمطر
إذاً. كتبت مرفت علي القصة القصيرة، ولها فيها ثلاث مجموعات قصصية هي: «السيرك، الجنازة، والخط الحديدي». كما كتبت مسرحيات: (قاطع التذاكر) التي مثلتها فرقة المسرح القومي في حلب، ومسرحية (المطر) للأطفال، جُسدت في مسرح العائلة والطفل. وأصدرت (الجاحظ - سيرة قصصية للأطفال) ولها كتاب «دور الكويت في خدمة الثقافة العربية». وفي الشعر: نشرت العديد من القصائد في الدوريات المحلية والعربية، ولها أيضاً: "النصف الآخر - شعر للأطفال، و"رحيل النورس نيسان - قصص للأطفال". وأما في الرواية: ففي عام 2001 كتبت روايتها «شحنة شجن»، ونالت مؤخراً جائزة أفضل رواية عربية عن روايتها (توليب أيلول)..
فيما تقول لمن يصفها بأنها "صائدة جوائز": الجوائز المحترمة معروفة ولا يمكن تزييفُها، جائزة السلطان قابوس وجائزة الدكتور محمد القاسمي وجائزة الدكتورة سعاد الصباح وجائزة العويس وآل نهيان و(كتارا) وغيرها.. تصدرُ عن مؤسساتٍ ومرجعيَّاتٍ ثقافية أصيلة ونزيهة. أمَّا الجوائز الوهمية فهي تصدرُ غالباً عن أفراد متطفِّلين على الثقافة، وأقصى ما يقدِّمونهُ شهادات الدكتوراه الفخرية الزائفة، أو الفوز بجائزة لم نسمعْ عنها وعن لوائِحها الداخلية، ولا عن أصحابها وليس هناك شروط أو أُسس معروفة لها.
شهادة شاعر وناقد
ونختم هذه "المدونة" عن تجربة الأديبة مرفت علي بشهادة الشاعر الفلسطيني راسم المدهون الذي يقول عنها: تنطوي قصص ميرفت أحمد علي على اجتهاد قصصي يقوم على مناوشة حكاياتٍ بسردية مباشرة حيناً، وبشيءٍ من الرمزية حيناً آخر، وكلُّ ذلك بأسلوبٍ يأخذ شيئاً من كاتب القصة الأهم والأكثر إغراءً للكتَّاب (أنطون تشيخوف)، ولكنه التأثر الذي يستفيد من التوجُّه ليفترق بعد ذلك إلى ما يؤكد أن ميرفت علي قد امتلكت صوتها الخاص بلغتها الأثيرة، فهي كاتبة واثقة تقف غالباً على مسافة افتراق عن أبطالها القصصيين وتروي حكاياتهم وحواراتهم أيضاً في سردية قصصية تغيب منها لغة المرأة الأنثى، وتنطلق في الحكايات مستعيرةً أصوات أبطالها الرجال وهمومهم، وكأن الكاتبة تتعمَّد أن تنحاز منذ البداية إلى موضوعاتها بالدرجة الأولى، بغض النظر عن طبيعة من يمكنه حمل تلك الموضوعات وتفصيلاتها. ويضيف: تقدِّم ميرفت قصة شديدة الجاذبية من خلال مونولوج سردي، يُراد له أن يستخلص صوراً من حياةٍ كاملة مضغوطة في كبسولةٍ من الهموم، تنعكسُ فيها صورُ البؤس والحزن والمصير المشؤوم وقتامات الفرقة والاستلاب؛ لنكتشف بعداً إبداعياً لا يسبح أبداً في هامش التلقي، بل يصبُّ في نخاعه الشوكي مباشرةً محدثاً أقوى تأثير في القارئ.
ورغم شيوع الرمز في قصصها إلا أن ميرفت علي تتكئُ على قوة الحكاية التي تعالج علاقات إنسانية تدورُ في إطارٍ اجتماعي واحد، هو إطار العائلة المجتمعية المعممة، فترصدُ الكاتبة أحداث مجتمع بشري برمته له أورامه الخاصة التي تتمحور حولها مادة الحدث في أساليب سردية متنوعة بعضها مونولوجي اعترافي نقدي، أو مذكراتي، أو خطابي مموَّه. فالأحداث التي تدور في ليالي أرق الكاتبة تتمُّ كلّها خلال مواقيت قليلة.
ويختم: إن للأديبة ميرفت أحمد علي مرصدها الحكائي العجيب الغريب، إذ تعثر لديها على القصص الآسرة التي صاغتها بأسلوبِ الروح الفانتازية، إذ تركت لمخيلتها مهمة إعادة رؤية العالم والبشر في أنماطٍ تصويرية مختلفة، من خلال رؤية علاقاتهم بظلالهم النفسية، والتي تبدو علاقات قدرية يستحيلُ أنْ نتخلص منها، ولا بدَّ من إنفاق الزمن في حياة الهواجس التي تولدها في النفوس.. هذه اللعبة الدائمة مع الإسقاطات الرمزية للظلال النائمة؛ الظلال الواهية التي تصعبُ رؤيتها إلا على كاتبةٍ قديرةٍ مثل ميرفت، ذات أداءٍ تعبيري مفعم بالدلالات، مشفوع بأسلوبٍ لغوي شعري رهيف ولمّاح.