شكّلت معاصر الزيتون التقليدية ولفترة من الزمن نمطاً اجتماعياً متوارثاً، تحضر فيها الطقوس المرتبطة بحب الأرض والتعلق بالتاريخ، ناهيك عن الطعم الحقيقي لزيت الزيتون المعصور على الرحى، والذي تفضله كثير من الموائد السورية مقارنة بزيت المكنات الحديثة.
راسخةٌ في العمل
الشريكان "حسان العباس" و"هزاع الشمالي" أعادا الحياة مجدداً لمعصرة الراحل "محمد العباس" في قرية بعمرة-صافيتا، وعن هذا العمل يتحدَّث "هزاع الشمالي" عن تاريخ المعصرة وما جرى لها من ترميم، ويقول: "المعصرة بُنيتْ من الحجارة الكلسية البيضاء في نهاية عشرينيات القرن الماضي، حيث ركّبت أول معصرة تعمل على محرك مانويل يدوي ما زال صامداً في زاوية المعصرة حتى اليوم، أُلحق بها طاحونة للبرغل وملحقات أخرى من الصناعات الغذائية، وفي عام 1979 استورد الأب "العباس" مكناته وباشر العمل بها عام 1980، ويتم عصر الزيتون على الطريقة التقليدية، أو كما يسمى بالعصر على البارد (الخوص والألواح المعدنية)، حيث كان يستخرج الزيت من خلال ترقيده في حفرة مكسية بالبورسلان، وفي عام 1994 تم تحديث المعصرة وركّبت فيها فرازة للزيت، ليستمر العمل على نفس الوتيرة منذ 85 عاماً وحتى اليوم".
يؤكد "الشمالي" استمرارية المعاصر القديمة الراسخة في السوق، لكنها تعمل بخجل أمام منافساتها من المعاصر الحديثة التي تفوق طاقتها الإنتاجية بعشرات الأضعاف، والإقبال عليها يعتمد على توفيق الله ووفرة محصول الزيتون.
المعصرة التقليدية
تتألف المعصرة التقليدية من (المحرك ،المكسر، الحلزون، المدرس، اللقاقة، طربية الضغط والقامة مع العربات القرارة)، حيث تبدأ المرحلة الأولى بوضع 300 كغ من الزيتون في المكسر، وتنقل بواسطة الحلزون إلى المدرس (العجول)، وتهرس بالضغط لمدة 20 دقيقة بضغط 400 بار، تنضد العجينة على الخوص بواسطة البيكار وتُسطر في العربة حتى انتهاء العجن وترفع لضغطها ضمن القامة الحديدية لمدة 20 دقيقة، وعند الانتهاء تغسل الخوص ويتم بعدها سحب خليط الزيت بواسطة القرارة وتعبئته في كالونات بلاستيكية، وهنا يكمن سر النكهة بعدم تعرض الزيت للحرارة المرتفعة. وبالتالي يحافظ الزيت على قوامه وهذا ما يعرف بدار أكسيد الزيت في أوروبا، الذي يفضله الخبراء لطول مدة جودته وفائدته الصحية الكبيرة مقارنة بالعصر على الآلات الحديثة.
ويؤكد اهتمام الشريكين بجودة العمل، من خلال التقيد بشروط عصر الزيتون المثالية، ويرى أن تفوق المعاصر الحديثة يعود إلى كمية الزيتون المعصور، لكن التقليدي يتفوق بالجودة والقطعية.
وتكمن التحديات في قلة الأيدي العاملة التي تعتبر عاملاً رئيسياً في عملية العصر التقليدي، وخروج العديد من معامل قطع الغيار (الكيس والضغط والخراطة)، في حلب من الخدمة، إضافة إلى مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وتأمين المحروقات.
إرث اجتماعي
احتوت معصرة "محمد العباس" على الإرث الثقافي والاجتماعي إضافة إلى الجانب الاقتصادي، وتميّزت بأجواء الدعابة والمرح المكلل باحترام الناس وأرزاقهم، لأنها أمانة لحين تسليم الزيت لصاحبه. وحتى اليوم تسير إدارة المعصرة على نهج وأسلوب الراحل "العباس"، لتبقى إرثا متوارثاً، وبما أنها كانت سباقة في تلك الفترة، يأمل أن تكون المعصرة بداية تنمية مستدامة حديثة في مجال عصر الزيتون واستخراج الزيت.
ويعود تاريخ معاصر الزيتون في سورية عموماً، وفي منطقة صافيتا خصوصاً إلى عدة قرون مضت، ووفقاً للباحث التاريخي "بسام القحط"، فالعديد من معاصر الزيتون التقليدية يعود إلى العهد العثماني وما قبله، وقد استخدمت تقنيات تقليدية اعتمدت على الأحجار والمكابس اليدوية.
وقد بُني بعضها في القرن التاسع عشر، فيما يعود بعضها الآخر إلى فترات أقدم، من القرن السابع عشر وما قبل إذ كانت تقنيات عصر الزيتون جزءاً من التراث الزراعي المتوارث في منطقة الساحل السوري.
ويرى "القحط" أن الاستمرارية التاريخية لهذه المعاصر تجعلها جزءاً مهمّاً من التراث الثقافي والاقتصادي للمنطقة؛ لاعتماد المجتمعات المحلية عليها في عصر الزيتون وصناعة الصابون والزيت الذي يعتبر مصدراً رئيسياً للرزق في تلك الحقبة.
واعتبرت معاصر الزيتون مركزاً مهماً في حياة القرى وشاهداً على التحولات التاريخية والاجتماعية فيها، ولم يقتصر دورها على إنتاج الزيت فقط، فهناك صناعة الصابون من "الزبار" المتبقي بعد عملية العصر؛ لتؤدي هذه الصناعات التقليدية دوراً حيوياً في تأمين معيشة السكان المحليين.
ويشير "القحط" إلى أن العمل اليدوي يتوزع بالمعاصر القديمة كل حسب دوره، بدءاً من غسل الزيتون، إلى إدارة الكسارات، وتسخين الماء، وعملية العصر باستخدام مكابس يدوية، وكان للنساء دور مهم في جمع "الزبار" (بقايا عصر الزيتون) واستخدامه في صناعة الصابون المحلي، ما يُظهر الدور الاجتماعي والاقتصادي المهم لهذه المعاصر في حياة المجتمع الريفي.
وحسبما يوضح "القحط" فإن المعاصر التقليدية تحمل قيمة تراثية كبيرة يجب الحفاظ عليها؛ لأنّها جزء من التراث الثقافي والتاريخي للمنطقة ضمن جهود صون التراث المعماري، ومن هذه المعاصر على سبيل المثال، المعصرة الأثرية المعروفة في كراج سمعان في صافيتا، والتي تعود إلى الحقبة الصليبية.
تحدّيات
يفضل المزارع "جمال سعدلله" عصر زيتونه تحت رحى المعاصر التقليدية، أو كما هو متداول " عالبارد" لاحتفاظ الزيت بنكهته الطبيعية، بخلاف المعاصر الحديثة ذات الحرارة العالية والتي تؤثر سلباً على نكهة الزيت، ناهيك عن الاستفادة من بذور الزيتون المعصورة "التمز" في التدفئة.
يتحدث "سعدلله" عن معاناته من ارتفاع أسعار اليد العاملة لهذا الموسم، "فالنابور" يعمل من الساعة 7 صباحاً حتى 12 ظهراً براتب 100000 ل.س، و"اللاقوط" 75000 ل.س، يومياً، إضافة إلى تكلفة التنقل من وإلى الطرقات الجبلية الوعرة.
أما المزارع "خليل جبرين" فقد اختار المعاصر الحديثة لسرعتها في أداء عملية العصر، وأيضاً إنتاج كميات أكبر مقارنة بالمعاصر التقليدية على حدّ قوله، وهذا الخيار الأفضل لتاجر الزيت، وبرأيه فالنكهة تختلف قليلاً.