حفرت طقوس قطاف الزيتون في ريف الساحل السوري عميقاً في الذاكرة، حتى غدت جزءاً من الموروث الشعبي، وارتبطتْ بسلوكيات وعادات محبّبة، وكانت المناسبة التي جمعت أفراد العائلة والأقارب من السنة إلى السنة، والذين كانوا يأتون من مناطق شتى ويتركون مشاغلهم لينجزوا هذه المهمة الضرورية لتأمين معيشتهم و تحسين رزقهم.

الأوضاع الاقتصادية الصعبة ترخي بظلالها

على العكس سيتم اعطاؤهم كميات إضافية من ثمار الزيتون والزيت لمساعدتهم بتدبير أمورهم الأسرية في ظل الظروف الاقتصادية الحالية الصعبة التي يعاني منها الجميع

ولكن تغيّر الأحوال والأوضاع الاقتصادية فرض تغيراً في طقوس قطاف الزيتون المستمرة منذ زمن الأجداد، بحسب حديث رب الأسرة "محمد علي" لمدونة وطن خلال عمله في حقل الزيتون خاصته، حيث أصبحت على حد وصفه باهتة لا روح فيها، فهذا العام لم تحضر ابنته المتزوجة في قرية بعيدة ولا أحفاده، ولا زوجة ابنه الموظفة نتيجة صعوبة المواصلات والضغوط المالية، فالجميعُ منهمك بأعمال إضافية لتحسين دخله، رغم أنهم كانوا ينتظرون موسم القطاف كل عام ليجتمعوا وليمارسوا طقوس رحلة برية بين أحضان الطبيعة، فيضفوا أجواء مرحة تنسي تعب العمل الطويل.

المزارع محمد علي

ويسترجع "محمد" ذكريات الماضي القريب: «كانت ابنتي وزوجة ابني منذ ساعات الصباح الباكر توقدان النار لتسخين إبريق متة الصباح ونحن نخطط لمراحل العمل اليومي، ويبدأ حينها الشباب فرش ما توفر من شرائح بلاستيكية أو شوادر في محيط أشجار الزيتون المراد قطفها، وسط أجواء من الضحك والمزاح وتبادل الطرائف، فهذه المناسبة كانت فرصة للاجتماع بعد شهور من البعد، ولكن هذا الطقس غاب عني هذا العام، وإبريق المتة الصباحية لم يجد من يسخنه، ولم أسمع ضحكات الأحفاد، وكأنه يوم حزين بالنسبة لي».

هذه الأجواء الودية التي كانت تسهم بزيادة تقارب الأهل والأقارب، وإنهاء اختلاف وجهات النظر فيما بينهم في حال وجودها، حسب رب الأسرة "محمود يوسف" تغيرت مع تغير الأحوال الاقتصادية، وبات الجميع يبحث عن مصادر دخل إضافية تساعده في تأمين معيشته، فأبناؤه الثلاثة هذا العام لم يجتمعوا معاً في موسم القطاف، بل عملوا بشكل منفصل عن بعضهم لينهوا القطاف بسرعة وليبحثوا عن حقول زيتون أخرى يقطفوا ثمارها بشكل مأجور، إما بمقابل نقدي يصل لحوالي /150/ ألف ليرة يومياً، أو بأجر يُعوض بكمية من ثمار الزيتون.

من طقوس قطاف الزيتون في الوقت الحاضر

ويتحسر يوسف أن أبناءه هذه السنة لم يجتمعوا على وجبة الغداء المطهو على الحطب بين أحضان الطبيعة كما كل موسم، ولم يشربوا حتى كأس الشاي الخمير المحبب بالنسبة لهم جميعاً بعد وجبة البرغل بحمص مع لحمة الديك البلدي.

الإصرار على طقوس المحبة والفرح

قطاف الزيتون أصبح مأجورا

"ليس في وسعي لوم أبنائي المتزوجين الذين يقيمون خارج القرية وبعضهم خارج المحافظة لأنهم لم يتركوا أعمالهم هذه السنة ويشاركونا في قطاف الزيتون؛ فالتكاليف المالية التي ستفرض عليهم نتيجة المساعدة في موسم الزيتون ترهق أسرهم الصغيرة"، هكذا تقول "ليلى عبد الله" ربة أسرة، مضيفة: "صعوبة المواصلات فرضت على الكثيرين العمل في أقرب المواقع والحقول الزراعية لأماكن السكن".

لذلك لجأت ليلى في موسم قطاف الزيتون هذا العام للاعتماد على الأبناء غير المتزوجين المقيمين معها في المنزل، وهذا لا يعني أن المتزوجين لم يحصلوا على حصصهم المعروفة من الموسم من الزيتون والزيت لعدم مساعدتهم لها، وهنا قالت: «على العكس سيتم اعطاؤهم كميات إضافية من ثمار الزيتون والزيت لمساعدتهم بتدبير أمورهم الأسرية في ظل الظروف الاقتصادية الحالية الصعبة التي يعاني منها الجميع».

على المقلب الآخر مارست "عبد الله" طقوس قطاف الزيتون رغم كل التغيرات التي باتت جذرية في طبيعة علاقة المزارع مع هذا الموسم الخير، مارسته بكل تفاصيله مع زوجها المتقدم في العمر، فحضرت وجبة الإفطار بين أحضان الطبيعة، وسخنت إبريق المتة الصباحية على نار الحطب، وجلست في الظهيرة خلال فترة الراحة واحتست الشاي الخمير معه، في محاولة لاستمرار هذه الطقوس السنوية رغم غياب من كان يجمّلها ويضفي البسمة إليها من مشاركة الأبناء والأحفاد والأقارب.