اشتهرت مدينة "الرقة" في العصر العباسي، بإنتاج نوع من الخزف يسمى بخزف "الرقة"، ويوجد حالياً في المتاحف الأمريكية والأوروبية والسورية كميات كبيرة من هذا الخزف. وقد قام عدد من علماء الآثار الإسلامية بدراسة هذا الخزف، وظلوا ينسبونه خطأ إلى فترة "هارون الرشيد" /786ـ 809/م بسبب إقامته في "الرقة" بعض الوقت. إلاَّ أنَّ الدراسات الأثرية الحديثة، قد أوضحت أنَّ هذا الخزف حسب زخارف آنيتها وأسلوب رسوم الأشخاص، يشير إلى أنها من عصر متأخر مع وجود بعض أنواع الخزف الرقي الذي يمكن إرجاعه إلى القرن الحادي عشر ميلادي، لكن معظم خزف "الرقة" يرجع إلى القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، لاحتوائه على عناصر زخرفية هي من مميزات القرنين الآنفي الذكر. ويحتوي متحف "الرقة" الوطني على مجموعة طيبة من الأواني الخزفية الرقية ذات البريق المعدني مثل: الزهريات والأباريق والطوس والكؤوس بأحجام مختلفة. أما الألوان الخاصة بالأباريق ذات البريق المعدني السائدة، فهي اللون البني الداكن وهذا النوع من الألوان النادر استعماله في مراكز صناعة وإنتاج الخزف الأخرى. لقد تم العثور في "تل أسود" الواقع عند الحافة الشمالية الشرقية "للرقة البيضاء" القديمة، على آنية عليها كتابات نسخية تعتبر أنموذجاً للخزف الرقي من القرنين /12/ و/13/م. أنَّ أواني "الرقة" الخزفية أغلبها مزينٌ بزخارف نباتية وكتابات نسخية أو كوفية، وأحياناً نجد رسوماً لطيور محوَّرة عن الطبيعة مرسومة باللون المعدني البرَّاق، على خلفية مخضرة وشفافة يعطيها رونقاً أخّاذاً أحياناً بإضافة اللون الأزرق الزهري إليه. وهناك بعض الأواني الأخرى لها أشكال أنيقة تتميز بالرشاقة والجمال وهي من إنتاج القرن الـ/12/م. عليها زخارف نباتية وكتابية تركت بيضاء وأحياناً رسمت باللون المعدني البرَّاق البني. ومن أجمل أنواع الخزف الرقي المعروف، هو النوع الذي رسمت زخارفه باللون الأسود تحت طلاء أزرق فيروزي، وتعتبر بعض القطع من هذا النوع، من بين روائع منتجات الخزف الإسلامي. ويوجد في كل من متحف "الرقة"، وفي مجموعة "هوراس هيفماير" في "نيويورك" في أمريكا. بعض السلطانيات من هذا النوع، يزينها شكل طاووسين منفذة بطريقة فنية بديعة. وهناك مجموعة أخرى مشهورة موجودة في متحف "المتروبوليتان" في "نيويورك" في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب بعض القطع الأخرى في متحف "دمشق" الوطني. وبالعودة إلى النموذجين اللذين في متحف "المتروبوليتان" باحتمال كبير أنهما من القرن الثاني عشر الميلادي، إذ نجد عليهما زخارف على شكل تنينين متشابكين، مرسومين بشكل يجسد ثعبان له جسد مُنقَّط مع وجود بعض التفريعات النباتية، كلها لونت باللون الأبيض على أرضية سوداء. ويرى بعض العلماء أنَّه كان لرسم التنانين في الفن السلجوقي أهمية كبيرة، وربما يرمز ذلك إلى فكرة الشّرّ عندهم. الميَّزة الأخرى في الفن االزخرفي الرقي أنَّ بعض الأباريق الكبيرة يلاحظ فيها بروز الزخرفة وتلوينها باللون الأسود.
كان للخزف الرّقيّ ذي اللونين الأزرق والأسود، تأثير تجاوز الحدود القومية، إذ إنّهُ وجد في إيران مجموعات ذات زخارف متعددة الألوان، تشبه كثيراً بعض أنواع الخزف الرقي من القرن الثالث عشر الميلادي، وتشتمل زخارف هذه المجموعة الإيرانية على رسوم حيوانية لها رؤوس بشرية، وكذلك رسوم محاربين وصيادي حيوانات وتفريعات نباتية جميعها نفذت بألوان سوداء وزرقاء وخضراء، وباللون البني الفاتح تحت طلاء شفاف مائل إلى اللون الأخضر.
.. يصنع هذا الطلاء من حصى النهر الملوَّنة بعد طحنها وتعريضها لدرجة حرارة عالية جداً وبعد عملية منتظمة يكون هذا الطلاء جاهزاً للاستعمال
وفي مدينة "الرصافة" القريبة من "الرقة" عثر على مجموعة من الجرار الخزفية، إذ يبدو التشابه واضحاً بين زخارف الخزف المكتشف في كلٍّ من هاتين المدينتين، وبالمقارنة يمكن تقسيم الخزف الذي عثر عليه في موقع "الرصافة" الأثري إلى نوعين مختلفين، الأول: خزف ذو زخارف منفذة بالبريق المعدني، والثاني: ذو زخارف مرسومة بالألوان، ففي النوع الأول من خزف "الرصافة" لا يبدو واضحاً كخزف "الرّقة" وإنّما له لون بني داكن مائل إلى الحمرة أو أرجواني. أما وجه التشابه فيبدو واضحاً في خزف "الرصافة" المرسوم بالألوان، ونظيره من الخزف الرقي مع إضافة اللون البني ذي الحمرة الريّانة إلى مجموعة الألوان السابقة. ومن خلال الحفريات الأثرية التي نفذها الأستاذ "قاسم طوير" في ثمانينيات القرن الماضي في القصور العباسية، وموقع "تل أسود" تم العثور على مجموعة جيدة من الخزف الرّقي الذي يعود إلى القرنين /12/ و/13/م, وهي اليوم محفوظة في متحف "الرقة" الوطني.
الزجاج والبللور: اشتهرت سورية بصناعة الأواني الزجاجية منذ القديم، وبعد مجيء الإسلام استمرت تقاليد صناعة الزجاج القديمة في البلاد وظلَّ الصنّاع يمارسون هذه الصناعة وفق الأساليب القديمة المعروفة مع تغيير في الإستراتيجية الفنية. وكان الزجاج المصنوع أو المنتج في العصور الإسلامية الأولى في سورية يشتمل على أنواع كثيرة ومختلفة من القوارير والمزهريات وأكواب للاستعمال المنزلي أو لحفظ الزيوت والعطور. وأغلب الأواني الزجاجية التي تمَّ العثور عليها من القرنين الثامن والتاسع الميلاديين خالية من العنصر الزخرفي. وهناك بعض الأنواع الزجاجية يُلحظ في زخرفتها أساليب مختلفة، على سبيل المثال لا الحصر الخيوط البارزة. وأشكال خلايا النحل والكتابات وغيرها من العناصر الزخرفية. وفي سورية انتشرت صناعة الأواني الزجاجية المزخرفة بالأقراص والخيوط المضافة إلى سطح الإناء، وجذور هذه الطريقة يمكن البحث عنها في الفترات السابقة لعهد الإسلام في سورية. وكانت الدوائر أو الحليات المضافة، إما على شكل خطوط متعرجة أو أشرطة متموجة أو أقراص، أو على شكل نقط تكون بلون الإناء الأصلي أو باللون الأزرق غالباً. والأمثلة على هذا النوع من الأواني نجدها في المتحف الوطني بـ"دمشق" وعدد من الأواني، وقارورة واحدة في متحف المتروبوليتان في "نيويورك"، وجميع هذه الأواني جاءت من سورية وأغلبها مزينة بزخارف مضافة على شكل جِمال؟ تحمل على ظهورها سلالاً مليئة بالأوعية. يعود تاريخ صنع مثل هذه الأوعية إلى بداية ظهور الإسلام، وخلال القرون الثلاثة الأولى للإسلام تطوّرت صناعة الزجاج تطوراً كبيراً في كافة المدن السورية، ويظلُّ فضل التقدم والإتقان لصناعة الزجاج يرجع إلى الصناع السوريين. وبلا شك أو منازع، فإنَّ "الرقة" إلى جانب كل من "حلب" و"دمشق"، كانت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، من أهم مراكز صناعة الزجاج ليس في سورية فحسب، بل في كل أرجاء العالمين العربي والإسلامي. وكان للأواني الزجاجية المصنوعة في "الرقة"، شهرة كبيرة في الأسواق المحلية والاقليمية خاصةً الأواني المطلية بالمينا. لذلك ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ علماء الآثار العاملون في حقل التنقيب الأثري في مدينة "الرقة" الإسلامية، بحملة للبحث عن مراكز صنع الزجاج والخزف بالطرق العلمية، لذلك فإنَّ حملة تقصي الحقائق عن صناعة الزجاج في العصر العباسي، لاقت دعماً كبيراً من المديرية العامة للآثار والمتاحف، ومن الجهات الممولة مادياً للبعثة الأجنبية المنقبة في "الرقة" القديمة. كانت البداية في عام /1990/م، حيث بدأت البعثة الألمانية السورية المشتركة بفتح أسبار منهجية في أماكن مختلفة من "الرقة" القديمة، أطلق على هذه الأماكن أسماء مفترضة لا علاقة لها بمسميات تاريخية، وأحياناً هذه الأسماء تفترض من خلال اللقى السطحية المتناثرة فوق الأمكنة التي يتمُّ التنقيب فيها، مثل "تل البللور" لكثرة الكسر البللورية المتناثرة فوق سطح المكان، و"تل الزجاج" و"تل الفخار" و"تل أسود" نسبة لسواد تربته وهكذا. وخلال مراحل التنقيب الأثري في هذه الأماكن، عَثر المنقبون على لقى زجاجية بعضها كامل وبعضها مهشم لها ألوان مختلفة. كما أنَّ المنقبين عثروا على بقايا أفران لإنتاج الزجاج والخزف الملوَّن. لقد وفرت هذه التنقيبات الأثرية فرصاً طيبة للدراسة والبحث وتقصّي الحقائق، عن دور "الرقة" العباسية في إنتاج الزجاج بحجمه ونوعيته والطرق العلمية في صناعته. وبعد عام /1994/م بدأت حملة جديدة، وأصبح مشروع التنقيب عن صناعة الزجاج في "الرقة" العباسية مشروعاً سورياً - بريطانياً برئاسة البرفسور "جوليان هندرسون" رئيس قسم الآثار والمتاحف بجامعة "نوتنغهام"، في بريطانيا بالتعاون مع متحف "الرقة" الوطني برئاسة السيد أمين المتحف. أما في عام /1998/م، فقد بدأت مرحلة حاسمة تتوجت بنتائج مذهلة، لاسيما بعد الانتهاء من أعمال المسح الأثري والجيوفيزيائي، وأعمال المسح البيئي التي اكتملت في عام /2000/م، وذلك عن طريق تحليل غبار الطلع وتحليل التربة الزراعية وتربة المستنقعات، وقد أُخذت عينات من النباتات التي تنمو على ضفاف نهر الفرات، وعند الدلتا التي تشكلت نتيجة التقاء الفرات برافده نهر "البليخ" التي أُرسلت إلى مخابر "دمشق" و"نوتنغهام" في بريطانيا، وكانت نتائج هذه التحاليل مثيرة للغاية، حيث تم التعرف على نوع من النبات كان ينمو على ضفاف الفرات، قد استخدم في الخلطة المكوِّنة للعجينة الزجاجية قبل عملية التصنيع، ويقول السيد "هندرسون": «.. ومن خصائص هذه النبتة بعد تجفيفها وسحقها، ثم إضافتها إلى العجينة الزجاجية يبدو أنها كانت تعطي المنتج الزجاجي لوناً فيروزياً تخصصت به مراكز إنتاج الزجاج في "الرقة" دون غيرها من مراكز إنتاج وصناعة الزجاج في الفترة العباسية». وقد أثارت التحاليل المخبرية أفكاراً جديدة، إذ تمَّ التعرف على المواد التي كان يصنع منها الطلاء الخزفي والزجاجي اللمَّاع، يقول البرفسور "هندرسون": «.. يصنع هذا الطلاء من حصى النهر الملوَّنة بعد طحنها وتعريضها لدرجة حرارة عالية جداً وبعد عملية منتظمة يكون هذا الطلاء جاهزاً للاستعمال»، حيث يستعمل هذا السائل كطلاء لمَّاعٍ وواقٍ لبعض المنتج الزجاجي، ويستعمل بشكل عام لكافة الأواني الخزفية. وتحقيقاً للدقة العلمية في عملية التنقيب الأثري هذه، لجأ المنقبون إلى استعمال أجهزة علمية متطورة تقنياً مثل جهاز قياس ميل الانحدار الشديد المسمى بـ(غراديومتر) الذي ساعد في تحديد توضع أماكن الأفران، والأتونات التي تتم فيها عملية الحرق، كما أنَّ هذا الجهاز أيضاً ساعد في تحديد أماكن ورشات العمل المجاورة لتلك الأفران، والمتوضعة على أعماق مختلفة من سطح التربة.. كانت نتائج التنقيب مشجعة، إذ أنه تم العثور في الموسم الأول على فرنين كبيرين لإنتاج الزجاج، وتم التعرف أيضاً على أشكال هذه الأفران بالرغم من الدمار والخراب التي تعرضت له خلال القرون الماضية، ومع ظهور الفتحة المؤدية إلى بيت النار في تلك الأفران، أمكن التعرف عليها لأنها وصلت إلينا بحالة سليمة، ونتيجة للدقة العلمية وأسلوب الحفر المنهجي المتبع من قبل البعثة الأثرية، وكذلك الوعي والحرص التام لدى العمال المحليين المتمرسين في أعمال الحفر الأثري، استطاعت البعثة الحصول على الأفران بحالة جيدة بالرغم من كل الصعوبات.. إنَّ البحث والتقصي، عن الطرق العلمية في صناعة الزجاج الإسلامي، قد استخدم للمرة الأولى عن طريق التنقيب الأثري في هذه المواقع، التي تمتد على مسافة /3/ كم شرقي أسوار مدينة "الرقة" الحالية.. إنَّ النتائج العلمية التي حققتها البعثة تعتبر بحق، أكمل نموذج اكتشف عن صناعة الزجاج في العالمين العربي والإسلامي، كما أنَّ الطبقات الترابية المتراكمة فوق الأفران، قد حفظت لنا هذه الأفران وخاصةً أفران صهر الزجاج والأتونات بحالة سليمة، وهي تمثل النموذج العلمي للمرحلة العباسية الثانية.. كما أنَّ عزل المخلفات من أفران التصنيع المكتشفة وتحليلها ودراستها، أظهرت لنا بوضوح كيفية صناعة الأواني الزجاجية بواسطة النفخ، وكذلك كيفية صنع ثلاثة نماذج مختلفة الأحجام للزجاج الشفاف الذي يوضع على النوافذ.. ومن المخلفات التي تم العثور عليها، نشير هنا إلى المادة المتكلسة الخام التي يصنع منها الزجاج (العجينة الزجاجية).. إنَّ دراسة الخزف المطلي الذي يعود تاريخه إلى القرنين /12/ و/11/م. قد وضَّح لنا لأول مرة كيفية صناعة الزجاج الرقي الشهير والمواد الأولية التي يصنع منها، وخاصةً الزجاج ذا اللون الفيروزي الأزرق الذي وجد له مثيل في أماكن أخرى من منطقة "الرقة" بشكل خاص، وبعض المواقع الأخرى في سورية بشكل عام.. إنَّ أهم مثال على هذا زجاج "تل شاهين"، الواقع على الضفة الغربية لنهر البليخ بحوالي /25/كم شمال مدينة "الرقة" الحالية، كما كشفت لنا المخلفات والقضبان والصفائح المتهدلة والنماذج غير الناضجة، عن الطريقة العلمية في طلي الفخار السائل المائع الزجاجي الذي يحتوي على مادة أكسيد الحديد، وعلى المواد الأولية للطلاء الزجاجي ومكوناتها الفعلية.. على العموم قدمت لنا التنقيبات الأثرية في "الرقة"، ولأول مرة في تاريخ التنقيب الأثري في جميع أنحاء العالم أفكاراً واضحة لا لبس فيها، عن الطرق العلمية في صناعة الزجاج والخزف والسراميك في المرحلة العباسية الثانية، وكذلك في المرحلة الأيوبية، والتي لم تظهر كذلك من قبل.. إنَّ هذه التنقيبات قدمت للبحث العلمي رؤية واضحة، عن الصلة بين عملية التصنيع والتسويق المحلية والخارجية مع العالمين العربي والإسلامي، إذ إنَّ الخزف والزجاج الرقي وجد في إيران، كما أنه وجد في مصر وفي أنحاء أخرى من العالم الإسلامي.
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أنَّ عدد الأفران، التي تم اكتشافها تتجاوز التسعة أفران، وأغلبها كان بحالة جيدة وهي محفوظة بحالة سليمة. ومما لا شك فيه أنَّ استمرار التنقيب الأثري في منطقة "الرقة" القديمة الذي توقف منذ سنوات، لابد من أنْ يستمر وإننا على ثقة تامة أنه سيقدم للبحث العلمي معلومات طيبة عن دور "الرقة" الريادي في بناء الحضارة والإنسان.