سوق السنانية يفوق في أهميته سوق الحميدية، فقد كان يمول منطقة سورية الجنوبية، وريف دمشق الجنوبي، بمستلزماتهم الحياتيه، ابتداء من البابوج وانتهاء بالطربوش كما يقال، بالإضافة إلى تصنيع العباءات، التي اشتهرت بصناعتها عائلتي المواردي والجاجة، وكوجان.
ما يلفت الانتباه أن سوق السنانية مازال متحفاً للصناعات والحرف التي كانت لبنة السوق الأولى منذ افتتاحه، والذي يمتد من باب الجابية إلى أول سوق النحاتين قرب مقبرة باب الصغير والذي يعد النموذج الأول لأسواق دمشق المغطاة بستار قوسي من الحديد والتوتياء.
المصنع قديم جداً وأنا أتذكر جد الوالد والوالد منذ الصغر، يقفون مكاني الآن
يعود بحسب المؤرخين للوالي العثماني سنان باشا عام 1590م وهي الفترة نفسها التي بني فيها جامع السنانية، ووجد في هذا السوق حوالي 18 قوساً مشيداً من الأحجار الصغيرة تم استبدالها في حقبة لاحقة بالحديد والتوتياء، لتآكل السقف منذ عام 1916 م، ولم يبق منه سوى قسم صغير ممتد من جنوب جامع السنانية حتى مفرق شارع البدوي وسوق النحاتين، يبلغ طول السوق نحو 105 امتار ومازال يعمل فيه الحرفيون والتجار. بالإضافة إلى محال بيع الحبوب ومشاغل لصناعة الأدوات المنزلية من الخشب والقش. والصناعات المتوارثة، كصناعة المكانس والمناخل والمباخر والألبسة الشرقية.
مدونة وطن eSyria كانت هناك بتاريخ 15/8/2013، وأول ما وقعت العين عليه، هو تجمع لعمال، يبتغون العمل، طلباً للرزق اليومي، ومن عادتهم أن يأتوا إلى هذا المكان كل يوم، طالعنا زقاق من الجهة اليسرى، هو سوق القطن، ولكن حسب السيد "حسن ابن إحسان المعراوي"، قال: «زاول أجدادي المهنة، وتوارثوها، كان المكان يعج بالمصابغ، ليتحول السوق فجأة إلى سوق القطن، حيث تنتشر محلات بيع العباءات والفرو عند مدخل السوق، تليها، محلات بيع الأحذية، وإصلاح القديم منها».
وبعد التأكد من أصحاب الحوانيت وجدنا أن الحرف متوارثة لم تخرج من أبناء العائلة الواحدة، وهم في الأغلب من مواليد مدينة دمشق، وهناك أسماء كثيرة امتهنت مهنة السكافة، دونتها مدونة وطن لتوثيق المهن. يطالعنا في منتصف السوق، فندق الإصلاح، وهو عبارة عن بيت عربي قديم تم تحويله إلى نزل صغير، يجاوره فرن صغير، وفي المقابل تنتشر حوانيت الشرقيات، والنحاسيات، والنراجيل ومستلزماتها، وبعد منتصف السوق، يطالعنا مصنع قديم قدم المكان لصناعة الحلاوة الدمشقية الشهيرة، يقول السيد "منير دعبول": «المصنع قديم جداً وأنا أتذكر جد الوالد والوالد منذ الصغر، يقفون مكاني الآن».
يجاوره محل، لصناعة المناخل، ليقول السيد "السيوفي": «هذه الحرفة لم تخرج عن العائلة يوماً ونحن نتوارث العمل فيها منذ سنين طويلة».
تنتشر على الجانبين محلات دباغة الجلود، حيث تباع فراء الخرفان بعد تنظيفها في هذا السوق حصرياً، يقول السيد "أحمد ياسين عبد القادر كوجان": «عمل أفراد العائلة في هذه المهنة منذ أجيال».
أما السيد "محمد شفيق الشويكي" الذي يمتلك معمل المطاط فيعود إلى العائلة منذ أجيال، فيقول: «كان جدي يحدثنا عن الدور الجميلة التي تحيط بالمكان، وكانت سكة الترام تقطع هذا الشارع ذهاباً وإياباً».
إلى جانب المحلات آنفة الذكر تتناثر محلات لبيع الملابس الجاهزة هنا وهناك، وفي لقاء مع الحاج المعمر، "صلاح توفيق نويدر" المولود عام 1920م قال: «كان السوق يغص بالزوار أيام المواسم، وكان مركزاً لصناعة الأحذية التي تصدر إلى ريف دمشق وما وراءها. يتفرع طريق سوق السنانية في نهاية الغطاء المعدني، إلى زقاق البدوي يساراً، وإلى الطريق المؤدية إلى السويقة يميناً، وفي هذه الطريق تتناثر محلات الحفر على الرخام على كلا الجانبين، فالسوق بمجمله سوق دمشقي بامتياز، والعاملون فيه ينتمون إلى الأحياء المجاورة، حيث تتفاوت خانات ولادتهم بين الشاغور، والقنوات، وقبر عاتكة، والشريبيشات».
وبلقاء سريع مع محترفي الحفر على الرخام، تبين أن الحرفة متوارثة عن الأجداد، من أقدم ممتهني الحفر، آل التقي، والإيتوني، يليهم، آل المرادي، والسرميني، والحمصي، والحلبي، كل هؤلاء متواجدون في مكان واحد، ولكن الأقدم في المصلحة، هم من آل التقي، والإيتوني.
ولقد أفاد السيد "محمد مرهف التقي": «الحرفة موجودة في عائلتي التقي والإيتوني، منذ زمن بعيد، وهما من أسستا المصلحة، التي تتطلب الدقة والإتقان والأناة في العمل. ورثت الحرفة من والدي "بديع ابن عبد القادر" رحمهما الله، وأنا أدير العمل الآن. وفي الجهة المقابلة من الشارع، محلات للشرقيات، وأخرى لبيع قطع الرخام، وفي زقاق صغير يقبع محل للخطاط يوسف الذي يتولى أمور الكتابة على القطع الرخامية قبل أن يبدأ العمال بحفرها».
ولم يخل المكان من البيوت الدمشقة القديمة، ومسجدين أثريين، هما مسجد العجمي، ومسجد الصابونية، وفي طريق العودة، تم اللقاء مع السيد "أيمن البيك" من سكان المنطقة، والذي يمتلك محلاً لبيع مواد التموين، حيث أعرب عن حب أهل المنطقة لهذا السوق الذي يعد من أقدم أسواق دمشق خارج السور، حيث يتغلغل سور دمشق بحجارته المتعددة الألوان، وراء المحال التجارية في الطرف اليميني المتجه إلى القلعة، وهنا استفاض السيد "أيمن" في وصف جمال المكان ومحيطه، ولكن اللافت للنظر، وجود اللحمة الاجتماعية، بين أصحاب المحلات أنفسهم، فمنهم من يعرف الجدود، والآباء، ومنهم من حضن الأبناء ورثة الجيلين السابقين، ليستطرد بالقول: «احتضن سوق السنانية، مجموعة متنوعة من شرائح المجتمع الدمشقي، عشنا معاً تجمع بيننا المحبة والألفة، امتلك إخوتنا اليهود محلات الشرقيات ومحلات الحفر على النحاس، التي كانت في السوق، كذلك امتك إخوتنا المسيحيين محلات جاورت المسلمين واليهود، كان سوق السنانية بمثابة البيت الكبير، الذي يضم أفراد عائلة واحدة، وأذكر الآن أن أحد المستشرقين كان في زيارة لهذا السوق، عندما دعاه أحدهم لضيافتنا على الطعام، فحضر في الوقت المحدد، وكم كانت دهشته عظيمة، عندما رآنا على مائدة الطعام نتحدث، وكان فينا اليهودي، والنصراني، والمسلم، رحم الله أيام زمان كنا نعيش بوئام».
ورفع أصبعه مشيراً: «مقابل محلي هذا، كان هناك محل لتصنيع ولبيع النحاسيات، لصاحبه "يوسف ناتان"، ولكن كان "أبراهيم زوكي" الأبرع والأشهر، في دمشق كلها، غادروا جميعاً دمشق في الثمانينيات، هناك كان دكان "بديع أبو عماد" من مسيحيي درعا، وفي الجوار، كان جاري وصديقي "إلياس ناصيف الشمشم"، كنا جميعاً نجتمع في رمضان على الفطور بحضور حاخام اليهود "هارون". كان ذلك قبل خمس وثلاثين سنة من الآن أتذكره كأنه أمس».