استحق بالفعل لقب الباحث الموسوعي وهو الذي أغنت كتبه المكتبات ووصلت بحوثه إلى جامعات العالم، فمن قرية "بقرعوني" التي تتبع لمنطقة مشتى الحلو كانت ولاّدة "عيسى جرجس فتوح" ومنها انطلق إلى بحر الأدب والفكر.
تأثر بالأديب "مارون عبود" الناقد اللاذع فاستجمع ما قرأه من دراسات في كتاب سماه "ساعات بين الكتب"، كما ترجم الكثير من كتب الأطفال من اللغة الروسية إلى الإنجليزية والعربية حيث طبعت في سورية وفي عدة دول عربية.
محطات صحفية
ولد الأديب "عيسى فتوح" عام 1935 في قرية بقرعوني ودرس فيها اللغة العربية 1956-1960، ونُدب للعمل إلى عدة محافظات، لينتهي به المطاف بالعودة إلى دمشق نهائياً عام 1967، وفيها أشبع نهمه بالقراءة حيث تفرغ للتأليف والترجمة.
يستذكر"فتوح" خلال خدمة العلم كتبت في مجلة "الفتوة" ومجلة "الجندي" التي أصبح اسمها فيما بعد "جيش الشعب"، وانتسبت إلى اتحاد الكتّاب العرب عام 1970، وفي عام 1973 أصبحت محرراً في مجلة المعلم العربي التي تصدرها وزارة التربية، وبعد عام تم ندبي إلى المكتب التنفيذي لنقابة المعلمين واستلمت رئيس تحرير مجلة المعلمين، ورئيس تحرير مجلة بناة الأجيال حتى تقاعدي من العمل الوظيفي عام 1996، وبعد التقاعد تضاعف إنتاجه الأدبي لتفرغه التام للكتابة.
وكتب في عدة مجلات نسائية، منها مجلة "دنيا المرأة" اللبنانية عام 1960 وكان مراسلاً لها في دمشق، وفي مجلة "المرأة العربية" التي كانت تصدر عن الاتحاد النسائي.
تناول قلمه حياة وأعمال الأديبات وفي المجلات الأدبية على وجه التحديد، كمجلة "الأديب" اللبنانية، وفي مجلة "أسامة" للأطفال وفي مجلة "المعرفة"، كما تولى مهمة التحرير في مجلة الثقافة لمدة عشر سنوات بعد مرض صاحبها المرحوم "مدحت عكاش".
كتابات للمرأة
تعاطف "فتوح" في كتاباته مع المرأة العربية المهمشة والغائبة عن الصدارة، يضيف: سلّطت الضوء على بعض الأديبات المجهولات اللواتي ظلمن في عالم الكتابة رغم تميزهن، وعلى أديبات معروفات أيضاً مثل "ألفت الأدلبي، كوليت الخوري، سلمى الحفار الكزبري، وداد سكاكيني، عزيزة هارون" وغيرهن، وكتّاب مثل "فؤاد الشايب وعبد الغني العطري" وغيرهم، وطبع معظم كتبه على نفقته الخاصة .
ويرى "فتوح أن المرأة السورية برعت في المواقف المشرفة كما الكتابة، كالكاتبة "ماري عجمي" صاحبة القلم المتقن، التي حاربت به الاستعمار التركي والفرنسي ومكافأة لها قام بتجميع أشعارها وطبع لها ديواناً في وزارة الثقافة تحت عنوان "ديوان ماري عجمي".
ويضيف: تميزت أديبات الصف الأول السوريات عن غيرهن من الأديبات العربيات بقوة اللغة، والشخصية المنطلقة والمنفتحة على ثقافات العالم، كسرن الستار الحديدي وخرجن إلى المجتمع وقضايا العصر الراهنة.
آخر الاعمال
رغم اقترابه من سن التسعين لا يزال "فتوح" يرفد المكتبة العربية بنتاجاته يقول:كان آخر كتاب صدر لي في أواخر عام 2023، وهو بعنوان "وجوه نيّرة في الأدب العربي المعاصر" صدر عن دار الفارابي في بيروت ومكتبة السائح في طرابلس، تضمن 25 دراسة أدبية و25 أديباً من كافة الأقطار العربية، كما احتوى جميع التيارات الفكرية والدينية والثقافية، وتناول فيه عدة قضايا مهمة ومتعددة الجوانب، واعتبر هذا الكتاب من أهم أبحاثي.
في نفس السياق يرى الدكتور "جودت إبراهيم" أستاذ في كلية الآداب جامعة البعث، وهو باحث وناقد وكاتب ومدير تحرير مجلة التراث العربي، ورئيس جامعة الوادي السورية الألمانية الخاصة،
أن "فتوح" باحث مجتهد قل نظيره خلال 50 سنة الماضية من حيث الغزارة والإنتاج والشمولية، تميز بتركيزه على الأدب والأدباء خاصة الأديبات العربيات والسوريات خلال قرن من الزمن، كما عُرف في الساحتين العربية والدولية .
ويوضح "ابراهيم" كيف مارس "فتوح" الصحافة الأدبية من خلال مشاركته في العديد من الصحف والمجلات السورية والعربية، وكتابته لمئات الدراسات الأدبية والنقدية، وهو الذي شقّ طريقه الأدبي منذ شبابه حتى بلوغه التاسعة والثمانين، كتب عن المرأة إنصافاً لها، وكانت هي جل كتاباته، وكان من أنصار الكتاب الورقي وبرأيه "لا شيء يصنع الكاتب غير القراءة". وعلى الرغم من أنه شارف على التسعين من العمر، فالكتابة جزء لا يتجزأ من حياته ولا يستطيع التخلي عنها، له شغف خاص بدراسة أعلام الأدب في القرنين التاسع عشر والعشرين وأعلام الأديبات لذلك برع في هذا المجال أكثر من غيره .
زاد المكتبات
برأي الدكتور "إبراهيم" أغنى "فتوح" المكتبة السورية بشكل خاص والمكتبات العربية بشكل عام بالعديد من المؤلفات والترجمات والموسوعات التي زادت عن خمسين عملاً، وللباحث موسوعة أدباء العرب المعاصرين الصادرة عن مكتبة لبنان في بيروت عام 2018، وموسوعة أديبات العرب المعاصرات التي صدرت عن مكتبة لبنان في بيروت عام 2020، وآخر إصداراته خمس كتب من عام 1994حتى2011 تحت عنوان "أديبات عربيات"، وأضاف لهذه المجموعة كتابين مخطوطين شكلا موسوعة "أديبات العرب المعاصرات" التي تضمنت 265أديبة من كافة الأقطار العربية والمهجر وغيرها الكثير.
ويضيف "ابراهيم": الباحث الموسوعي استحق العديد من شهادات التقدير، لأنه تفرد في عمله الموسوعي بشكل فردي، رغم حاجة عمله هذا إلى مؤسسات متفرغة، فاستحق شهادات التقدير من وزارة الثقافة السورية واتحاد الكتاب ونقابة المعلمين، وقدم له درع اتحاد الكتاب العرب، كما نال وسام الشاعر "نيكولاي فابتزاروف" من بلغاريا، ووسام الصداقة بين الشعوب من ألمانيا، وغيرها، وحتى اليوم ننتظر تكريمه على أعلى المستويات السورية والعربية لأنه يستحق الكثير.
بدوره يرى الطالب "نائل سليمان" سنة ثالثة أدب عربي أن "فتوح" ثروة فكرية، وتعد موسوعاته مرجعاً حقيقياً، ويأمل أن يتم نشرها في المكتبات العامة أو من خلال الندوات في المراكز الثقافية لتكون بحوثه متاحة للجميع .
الباحث الموسوعي
يبلغ "فتوح" حالياً من العمر 89 عاماً ويتمتع بذاكرة فولاذية، لكنه توقف عن الكتابة، بسبب ضعف البصر، وفقدان المرونة في يده اليمنى جرّاء عارض صحي، وحالياً يمتلك 6000 كتاباً في مكتبته الخاصة المكونة من الموسوعات والمعاجم والكتب النادرة، وجميعها كتبت بالورقة والحبر، حيث لم يستعمل الكمبيوتر إطلاقاً خلال مسيرته، وقد أوصى بإهداء كتبه للمكتبة البطريركية الأرثوذكسية في دمشق بعد وفاته.
يختتم "فتوح" حواره قائلاً: "توقفت عن حضور النشاطات الأدبية، فقد آن لهذا الفارس أن يترجل بعد هذا العطاء، ويفتح الطريق لغيره بمواصلة التأليف الموسوعي، وحالياً أقضي الوقت مع بناتي الأربع وأحفادي، وفي المطالعة وسماع الموسيقا، وقضاء بعض الوقت الصيفي الهادئ في قريتي بقرعوني".