يكاد لا يُذكر اسم الفنان سعيد مخلوف؛ إلا ويُذكر معه لقب (شيخ النحاتين)، تماماً كما لا يُذكر اسم فاتح المُدرّس، إلا ويُذكر معه لقب (المعلم)، ولا غرابة في اللقبين للرجلين، وربما قلة من يعلم أن الفنانين الكبيرين كانا محترفين متجاورين في دمشق، وكثيراً ما عملا في محترفٍ واحد نحتاً وتصويراً على ما يروي "نظام مخلوف" ابن الراحل "سعيد مخلوف"، حيث كان آخر معرض للراحل خارج سورية، في ألمانيا أقامه "مشتركاً" نحتاً وتصويراً مع أعمال الراحل "فاتح المُدرّس".
رحلة الـ99 عاماً
مناسبة ما تقدّم هو المعرض الاستعادي الذي أقامته (صالة كامل) بدمشق لبعض أعمال النحات "سعيد مخلوف" بمناسبة مرور (99) عاماً على ميلاده، فبين سنة (1925) حيث الولادة في قرية «بستان الباشا» في اللاذقية الساكنة زند البحر الأبيض المتوسط، والمتمرئية بسهوله الخصيبة، وسنة (2000) حيث الوفاة في دمشق، تلك كانت المدة العمرية من الحياة التي مُنحت لـ"سعيد مخلوف" كافية لأن يُعبّر عن موقفه الجمالي في هذا العالم، حيث كان أول نحات اعتمد الخشب، وجذوع الشجر خامة لتنفيذ أعماله النحتيّة منها، وخاصةً جذوع وجذور أشجار الزيتون المتوافرة في مسقط رأسه (بستان الباشا)، وعلى ما يروي الفنان– النحات والناقد التشكيلي "محمود شاهين".
استطاع "مخلوف" أن يحوّل محترفه في مدينة معرض دمشق الدولي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، إلى مركز استقطاب لعددٍ كبير من المواهب الفنيّة الشابة، بينها عدد من طلبة قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق حينها، حيث عمّقوا خبراتهم العمليّة، وأخذوا عنه حب التعامل مع خامة جذوع الشجر، ومن بينها أسماء أصبحت معروفة وحاضرة بتمايز في النحت السوري المعاصر: مثل (أكثم عبد الحميد، ومحمد بعجانو، ومظهر برشين).
المعرض الاستعادي
خلال الفعالية الأخيرة "المعرض الاستعادي" لبعض أعماله في (صالة كامل) – سألت عدداً من الحاضرين، وممن عاصروه وزاروه في محترفه عن سر لقب (شيخ النحاتين)، ومن هو الناقد الذي أطلق عليه هذا اللقب؛ وكانت الإجابات تكاد تكون واحدة، وهي إننا وعينا ونحن نطلق عليه هذا اللقب، الذي كان حاضراً في مختلف السرديات النقدية التشكيلية التي كانت تقرأ أعماله، وعندما سألتهم عن أعمال المعرض: كم تُمثّل من أعمال الفنان الراحل اتفقت الإجابات أيضاً على إنها لا تُمثل أكثر من عشرة بالمئة من أعماله إن لم يكن أقل من هذه النسبة، حيث كانت معظم الأعمال تنحو باتجاه (المنحوتة) الصغيرة، وهو الذي عُرف عنه إنتاج الأعمال النحتية الضخمة، لاسيما عندما كان يروّض شجرة الزيتون كاملة مع جذورها لبناء عملٍ نحتي ضخم، والكثير من هذه الأعمال مُقتنى من المتحف الوطني بدمشق.
مستويات نحتية
في هذا المعرض الاستعادي لأعمال شيخ النحاتين؛ فقد ناست المنحوتات بين مستويين، وربما ثلاثة: الأول: أعمال نحتية واقعية كما في نحت أشكال حيوانية مثل الغزال والنسر، والتي يقول عنها أحد معاصرية الفنان "نبيل السمّان" إنها لا تعدو أكثر من تمارين نحتية كان يشتغل عليها الفنان "مخلوف"، فيما المستوى الثاني: فقد تمثّل في إعادة صياغة الأسطورة، أو بعض الرموز الأسطورية من سورية العتيقة كالثور المجنح برأس رجل وغير ذلك، وثالث هذه المستويات، وهي أهمها بالتأكيد، والتي يقول عنها "السمّان" إنها وضعت النحت السوري على سكة الحداثة والمعاصرة، وهي التحويرات والاختزالات الأنثوية المتنوعة التي كانت الأكثر حضوراً في أعمال المعرض.
شيخ النحاتين
يقول "نظام مخلوف" ابن شيخ النحاتين: "عايشت معظم أعماله من الفكرة تقريباً، وحتى صياغتها كاملة، وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي حتى وفاته نهاية القرن العشرين، حيث لم يترك خامة لم ينحت عليها، غير أن خشب الزيتون على وجه التحديد كان الأقرب إلى نفسه، لاسيما في اشتغاله على شجرة كاملة، وقد كتب عن تجربته أهم النقاد التشكيليين حينها، وأظن –رغم أني غير متأكد– أنّ الناقد "عبد العزيز علوني"، كان هو وراء لقب شيخ النحاتين، وكان ثمة محترف في محلة المزرعة مشترك بينه وبين "فاتح المدرس"، حيث كان ملتقى لكبار المثقفين والمبدعين حينها، وثمة صالة أخرى مشتركة أيضاً هي صالة أورنينا مع الفنان "محمود دعدوش" في ساحة عرونوس".
من جهته يذكر الفنان "نبيل السمّان" أن الراحل اشتغل أيضاً على الخزف، لاسيما في أعمال قاربت مضامين لوحات بيكاسو في الاتجاه الحداثوي العالمي، ولاسيما في مفهومه للكتلة والفراغ، وفهمه المتطور للطاقة الكامنة داخل المادة التي يقوم بالنحت عليها، ومن ثمّ تطويعها وترويضها، لاسيما في أعماله على شجرة الزيتون التي كانت تتجاوز المترين، وما نشاهده اليوم ليس أكثر من فلاشات لتنويعات أعماله من مراحل مختلفة.
مدرسة نحتية
الفنان المتعدد النتاجات التشكيلية "سهيل بدور" يقول: "أولاً: الراحل سعيد مخلوف كان أستاذي لزمن ليس قصيراً، وهو من الفنانين القلة الذين تدخل محترفه ويُعطيك مساحة واسعة للإلهام، وتجد في فضائه متعة بصرية غير عادية، وفي النحت أظهر مخلوف موهبة لافتة في هذه العفوية والتلقائية التي كان يشتغل فيها على الكتلة، وذلك بأسلوبٍ مذهل حيث كان يدخل إلى زوايا ضيقة وصعبة لم تكن لتخطر على بال حتى يُتمم فكرة العمل النحتي.. كما تأتي تأليفات "سعيد مخلوف"، وبمجملها من أكثر الأعمال النحتية التي يُمكن لها أن تُساعد على كل الشروحات الأدبية والفنية والإنسانية، هذه الإنسانية التي في داخله والتي كثيراً ما كان يُناكفها حتى تخرج شخوصاً منحوتة بكلّ هذا الحضور البصري في تكوينات الخشب وغيره، ومن ثمّ يأتي بناء الكتلة بكلِّ هذه القوة التي عرفتها أعماله،حيث كان معروف عنه؛ أنه لم يكن يحب الخامات المستسلمة، والمعروفة مآلاتها التكوينية، بل كان يعشق الأعمال النحتية البنائية كالوجوه المبنية فوق بعضها بحالات إنسانية مختلفة على الخشب، والتي تبدو مشبعة بالحب والفرح، وقوة الإرادة.."
ويُضيف بدور إنّ "سعيد مخلوف" أسس لمدرسة حقيقية في النحت السوري، ولذلك كان شيخ النحاتين.