لعلّ أكثر ما يُمكن للمتابع أن يقف عنده في المشهد الثقافي السوري؛ هو أنه دائماً ما كان محكوماً بـ"تقليدية" ما، تنشأ ثمّ تكاد أن تُجلبب المشهد بمعطفها، وهذا أمر لم ينجُ منه مشهد من المشاهد في الساحة الثقافية، سواء جاء ذلك في المسرح، أم القصيدة، وحتى في المشهد التشكيلي باعتباره الأغزر إنتاجاً، حيث يبدو في معظمه، وكأنه نتاج المحترف الواحد.
ثلاث انعطافات
غير أن نظرة تأمل أكثر لذات المتابع؛ لابدّ سيصدف بعض التجارب الإبداعية التي حاولت أن تصنع لنفسها علامتها الفارقة، ومن هؤلاء في المشهد التشكيلي السوري، تجربة الفنانة التشكيلية "راميا حامد" والتي أبقت لأعمالها الكثير من المجسات التي تربطها بالمشهد التشكيلي السوري، وهذا أمر مشروع بالتأكيد، غير أنها تميزت بأسلوبها الذي نوعت فيه بثلاث انعطافات لافتة.
في تجربتها الأولى اشتغلت الفنانة على إرفاق قرين حيواني مختلف في كلِّ مرة، وتحديداً كانت ثلاثة أنواع: الدعسوقة (ستي أم علي) كما تُعرف شعبياً، ونوع من الحسون البري يُطلق عليه شعبيّاً (الزكزوك) أظنه أمسى اليوم في طور الانقراض، وأخيراً الغزال.
تقول عن هذا "القرين": "حاولت أن أجد بديلاً للمشهد التقليدي في معظم اللوحات، غير اقتران المرأة والرجل في اللوحة لاسيما في المشاهد الرومانسية، الذي أصبح المشهد مكرراً، لذلك بحثت عن تيمة جديدة تُحاكي جمال المرأة ومشاعرها، ووجدت الحسون هو الأنسب ويشبه الأنثى كثيراً في رقته وألوانه وعذوبة صوته، كذلك الأمر بالنسبة للغزال، فالشعراء منذ القدم يتغنون بجمال المرأة ويصفونها بالغزال، هذا ما دفعني لنسج محاكاة رومنسية والمزج بينهما، وكذلك الأمر بالنسبة للدعسوقة؛ التي اخترتها لرمزيتها بحلول الربيع وتجدد الطبيعة".
في الانعطافة التالية؛ بقيت المرأة وحالاتها الجمالية الأقرب إلى الغنج والطفولة والعذوبة الصرفة مستثمرة جمالياً من خلال استثمارها لمسرح الدمى، في حالات نسوية اشتغلت عليها "حامد" من خلال ترتيب انسجام لا تُخفى دلالته لاسيما بين العلاقات اللونية والشواغل الداخلية للفنانة، التي استطاعت كسر الحواجز أو الحدود بين الواقع والمُتخيل والتي تبرز بالمشهدية التي تُقدمها كفرجة مسرحية حيث التعابير الدرامية تظهر على ملامح الجسد في الوجه والعيون، وحركات اليدين وغير ذلك، يؤكد هذه الحالة الإيغال في الاشتغال على الألوان الصريحة غير الممزوجة، والخطوط الواضحة رغم كلّ المغامرة في هذا الاتجاه، التي تصر على تجاورها، وليس على تمازجها، غير أن التكوينات التي حصلت عليها من خلال لعبتها التلوينية هذه، كانت حمّالة أوجه، وتوغل في المواربة.. (فن العرائس) بكل ما يوحي بالطفولية أو الإحساس الطفلي في اللوحة، إضافة لمسحة كاريكاتورية خاصة.. وهي تقفُ اليوم في زواية أخرى للمشهد، فبعد تلك المرأة المفعمة شاعرية قرب السواقي وغدران المياه والطبيعة النظفية والساحرة، تنقل عدسة رؤيتها بما يُشبه الموقف، وهي أنّ هذه الحياة وما يجري فيها أقرب إلى البهلوانية وفنون السيرك فعبّرت بهذا الاتجاه عن جوانيّات المرأة وما يعتمل في داخلها من مشاعر حب التملك والغيرة، ثم المُهرج الذي كان دائماً في هذه المشهدية، هو الرجل، والذي قدمته هو الآخر كضحية ومّعذب، وأقرب إلى "المسكنة" والدروشة، وهو ما اشتغلت عليه من خلال "تيمة" خيوط التحريك، التي تُستخدم في تحريك الدمى كما هو مُتعارف عليه.
الخيوط هنا، كانت حمّالة لكلّ تلك الأفكار والهواجس من تعلق وارتباط وربط وقيود وغيرها الكثير التي هي من ملامح هذا الكائن (المرأة) التي يُرعبها الفقد، والافتقاد، والوحشة، وكل مظاهر الوحدة والعزلة، وهو ما يشدّها صوب هذه الخيوط (الحبال) ، التي هي أقرب إلى الأمنيات والاشتهاء والتمني، لتكون تلك الخيوط محققة لرغباتها في تحريك ما ترغب وتشتهي.
الفن الزخرفي
قبل أن تستنفد الفنانة الانعطافة الأخيرة آخر جمالياتها تُسارع في التفكير بانعطافة جديدة، وما تشتغل عليه اليوم كما تقول هو الفن الزخرفي أو (آرت ديكو) بالفرنسية "Art Dec" وهو موجة تصميم شعبية بزغت في فرنسا على أعتاب الحرب العالمية الأولى، وراجت بين عامي (1920 و1939)، وأثرت في العديد من الفنون كالعمارة، والفنون البصرية مثل الموضة، والرسم، والنحت، وكذلك التصميم الرقمي، والسينما، وتصميم المجوهرات.. أما كيف استطاعت أن تُشكّل رؤيتها الخاصة، فذلك كما تقول، من خلال دمج الواقعية والسوريالية في عمارة اللوحة، حيث حافظت على وجود المهرج الذي كان حاضراً في انعطافتها السابقة والتي هي فن (الماريونيت) كما هو مُتعارف عليه عالميّاً، وذلك رغبة منها في تقديم وإحياء هذه المدرسة القديمة، أو هذا الاتجاه البصري القديم بعض الشيء من القرن الماضي، لكن بأسلوبها وبرؤيتها اللونية والبصرية، وبمضامين مختلفة، وبصيغة جديدة وخاصة لا تُشبه غير نفسها، وإن كانت قائمة على فنون عتيقة، فالإبداع اليوم ليس سوى إضافة على هذا الإرث
بريق إبداعي
تتحدث الناقدة "رندة حلوم" عن تجربة الفنانة "حامد" قائلة: "مع الإنشغال شبه المطلق بالفكرة وتحفيزها من خلال الأداء التقني للحفاظ على البريق الإبداعي، ولا أقول البصري، فهي لا تؤمن بالإبهار المتوقع، وإنما بإدهاش جمالي.. تمخضت أفكارها تلك وممارساتها التشكيلية في الاتجاه المومأ إليه وعدم التمسك بالمنجز المرحلي وإنما بالتجربة".
بدوره يقول الشاعر والناقد" هاني نديم": "راميا حامد فنانة خاصة جداً، تعمل بشغف ودأب منقطع النظير، تطور لوحتها ولا تركن إلى ما وصلت إليه، تداخل بين الفنون والمدارس في لوحة واحدة، متنقلة بين المسرح والرواية والشعر والتشكيل بل والنحت.