في ساحات القرى الصغيرة وعلى ضوء احتراق نبات "البلان الشوكي" زف أجدادنا أبناءهم وبناتهم، فمن خمسة أيام إلى سبعة بلياليها استمر العرس الريفي قديماً في ريف محافظة "طرطوس" حيث تعيش القرية في عالم من الفرح العفوي والتعاون الأسري.
ويوضح السيد "حسن اسماعيل" الباحث في التراث الساحلي ميزات التراث الاجتماعي في هذا الريف الجميل من حيث التقاليد والأعراف والمناسبات حيث يقول: «كان لها وقع خاص عند الناس وكانت تترك في ذاكرتهم علامات قد تبقى طوال حياة أصحابها وحتى بعد وفاتهم، فقد درجت عادة "العونة" عند زواج أي شاب في القرية من لحظة انتشار خبر خطوبته إذ يتنادى الشباب لبناء مسكن للشاب الخاطب دون أي أجر تحت عنوان "كاس على كل الناس" أو "اليوم لنا وبكرى علينا" فيتوزع شباب القرية على أعمال إقامة المسكن.
كنا نسمي اليوم الأول للعرس يوم "الحنة" حيث تجتمع فتيات القرية في منزل العروس لتحضير عجينة الحنة وطلاء يدي العروس بها في طقس احتفالي غنائي مميز
فالبعض منهم يحفر الأساسات وآخرون يقطعون الحجارة وغيرهم يذهب إلى الغابات الكبيرة لقطع الأشجار لاستخدامها في سقف البيت، وبعد إتمام عملية البناء يأتي دور النساء لتطيين المنزل من الداخل ثم طرشه "بالحوارة" وهي سائل التربة البيضاء».
ولا تنتهي المساعدة هنا فمنزل الزوجية يحتاج للكثير كما يشرح السيد "حسن" إذ يقول: «عند تحديد يوم العرس تسري في القرية مشاورات للتبرع بالأدوات اللازمة لتكوين البيت، فهذا يقدم "عونة" أو "نقطة" للعروسين مثلاً طنجرة طعام، وذاك لحاف والآخر جرة للماء وغيره فرشة صوف لباد أو خابية للزيت، والبعض يقدم كميات من الحنطة والحمص والزيت، وربما بعض أدوات الفلاحة، أما الأقارب فيقدمون عادة بعض رؤوس الماشية "عنزة أو خروف أو عجل أو بعض الدواجن" في حين يقدم الأهل بعض الأشجار المثمرة مثل "زيتونة أو تينة أو عريشة"».
وتروي الجدة "عليا هرو" التي تجاوزت الثمانين من عمرها من أهالي قرية "العصيبة" في ريف مدينة "بانياس" حكاية زفاف عروس ريفية في زمن عاشته وعاصرته قبل ما يزيد عن الستين عاماً فتقول: «كنا نسمي اليوم الأول للعرس يوم "الحنة" حيث تجتمع فتيات القرية في منزل العروس لتحضير عجينة الحنة وطلاء يدي العروس بها في طقس احتفالي غنائي مميز».
وتضيف: «يسبق العرس تحضير مكان الحفلة، وهو في الغالب جزء من بيدر القمح المخصص لأهالي القرية ويسمى "المرسح" أي "المسرح" حالياً، حيث يقوم عدد من الشبان والفتيات من أهل وأقرباء العريس أو المتطوعين من الجوار بالذهاب إلى الجبل وجمع الحطب ونبات "البلان" وهو نبات شوكي سريع الاشتعال يستمر احتراقه متوهجاً لفترة طويلة، وبعد الانتهاء من جمع "البلان" كانوا يجتمعون في أعلى الجبل لاختيار أجمل فتاة بطريقة الانتخاب والإجماع على جمالها، لتسير في أول الموكب حاملة "البيرق" عالياً و"البيرق" هو قطعة قماش بيضاء مرصودة على عصا طويلة.
ثم يعود الجميع إلى القرية ويضعون "البلان" بشكل دائري حول "المرسح" مهيأ لإشعاله ليلة الزفاف».
وتتابع: «اليوم التالي وهو موعد جلب العروس إلى بيت العريس، وتسمى هذه الليلة بطلعة العروس، وهنا تكون القرية مجتمعة عند منزل العريس، لتنطلق إلى منزل العروس لإحضارها، وفي هذه الأثناء تكون النسوة قد جهزن الطبخ والموائد والفاكهة والحلويات التي كانت في تلك الفترة الرز بالحليب والكعك بالحليب».
وفي نفس الوقت كانت استعدادات العريس تتم بالتوازي مع استعدادات العروس
حيث تحضر الثياب الجديدة المصنوعة من الجوخ على طبق من القش، كما يتم إحضار الحلاق الذي كان يضع أدواته في حقيبة خشبية إلى منزل العريس ليبدأ بتزيينه وسط زفة غنائية فلكلورية، ثم يزف العريس بموكب إلى "الصمدة" وهو المقعد العالي الذي يجلس عليه العريس والعروس، ويبدأ الحفل أولاً بتقديم "السماط" وهي موائد الطعام والفاكهة».
في حين يعبر الجد "محمود شدود" الذي تجاوز التسعين من عمره عن استغرابه من غلاء مهور عرسان هذه الأيام مقارنة بالمهور في الفترة التي عاصرها قبل ما يزيد عن أربعين عاماً حيث يقول: «إن مهر العروس كان في الثلاثينيات والخمسينيات من القرن العشرين في منطقتنا يتراوح ما بين خمس ليرات ذهبية وخمس عشرة ليرة، وإذا تجاوز هذا العدد من الليرات، فإنه يكون مهراً استثنائياً ولا يتجاوزه إلا الأغنياء ووجوه القوم.
وقد جرت العادة أن يدفع والد العريس المهر إلى والد العروس، إما عشية العرس عندما يكون الناس يشكلون حلقات الدبكة حول التشعيلة، ويكون البيت خالياً، أو في الصباح قبل خروج العروس من بيت أهلها، أي إن دفع المهر يتم أثناء الاحتفال بالعرس بحيث يصبح مؤكداً.
ومما لاشك فيه أن الزواج سيتم ولا مجال لتراجع أهل العروس، كما إن العادة جرت أن يدفع والد العريس لوالدة العروس ليرة ذهبية، وهذا يسمى حصانة الأم أو "رضاوة" أي إرضاء لوالدتها».
وبالنسبة لنقطة العروس أشار السيد "محمود" إلى أنه بعدما تنتهي العروس من ارتداء ثيابها يدعى والدها ووالدتها وإخوتها وأخواتها وأعمامها وأخوالها أو من يرغب من أقاربها لتقديم النقود لها وهذا يقال له نقطة العروس.
أما والد العروس فيجب أن يدفع لابنته أي أن ينقطها بمبلغ يتناسب مع مقدار المهر الذي قبضه وهو يتراوح ما بين ليرة وثلاث ليرات إذا كان المهر يتراوح ما بين خمس عشرة ليرة ذهبية، أما والدتها فقد تنقطها بليرة ذهبية واحدة إذا كانوا أعطوها حصانة ليرتين أو ثلاث ليرات، وأما الإخوة والأخوات إذا كانوا لا يزالون ضمن العائلة فإن نقطة الوالد تشملهم، أما إذا كانوا قد قسموا وتزوجوا فكل واحد منهم ينقط عن نفسه».
ويضيف: «أما ما تبقى من المهر الذي يقبضه والد العروس فسوف يزوج ابنه به أي سيدفعه مهراً لعروس ابنه، وستكون العروس راضية بذلك لأنها تحب أخاها أكثر من أي شخص آخر، فهو الذي يشد أزرها في الملمات، وهو الذي ترفع رأسها مفتخرة به وتتمناه أن يكون في الذروة من العز والكرامة».
وعن مصير النقطة التي حصلت عليها العروس من أهلها وأقاربها يقول السيد "محمود": «كل ما يقدم كنقطة للعروس سواء من العريس أو من أهلها يعتبر ملكاً خاصاً لها، فليس لزوجها حق أن يأخذه منها أو أن يتصرف به أو يستقرضه منها دون رضاها، ولذلك فإن لها الحرية في التصرف بملكها فإما تخبئه مع والدها أو مع والدتها إذا كانت تخشى أن يستولى عليه غضباً منها، وإما أن تخبئه في صندوقها الخاص بها أو تشتري به أرضاً أو تقتني بقرة لها تربيها وتبيع من إنتاجها وما تلده إلى آخر ما هنالك من وجوه التصرف».