كانت مدينة "حلب" عبر مختلف العصور مزدهرة في المجالين العلمي والفكري ويدل على ذلك كثرة المدارس والمكتبات التي تركها لنا أجدادنا الأقدمون. وقد لعبت تلك المنشآت والصروح العلمية والحضارية دوراً بارزاً في حياة الحلبيين حيث تخرّج منها المئات من العلماء والمثقفين الذين ساهموا بنتاجاتهم الفكرية والمعرفية في التأسيس لعصر النهضة الحلبية ورفع اسم "حلب" إلى مكانها المناسب بين المدن.
وحول اهتمام الحلبيين بالمكتبات خلال التاريخ يقول الدكتور الشيخ "علاء الدين زعتري" في كتابه دار المكتبات الوقفية الإسلامية بحلب: «لقد اهتم أجدادنا وهم السلف الصالح بالمكتبات تبعاً لاهتمامهم بالمساجد وقد كان تأسيس المساجد من أوليات اهتمامات السابقين ولم يقفوا عند حد تأسيسها بل أدركوا أنّ مهمة المسجد لا تقتصر على إقامة الشعائر بل تتعداها إلى أنّه مركز ثقافي علمي ينهل منه الطالبون ويغرف منه الباحثون شتى أنواع العلوم والفنون والمعارف.
أصحاب المكتبات العامة هم مروّجون للثقافة والمعرفة ولذلك أرى أنه من واجب الجهات المختصة إعفائهم من الضرائب- وما أكثرها- وكذلك أن تعمد إلى تأسيس جمعية أو اتحاد لأصحاب مهنة بيع الكتب أسوة بباقي الحرف كي تكون لنا مرجعية إدارية نعمل في إطارها
ومع الأيام وتطور العمران ارتأوا أن يجعلوا المدرسة بجانب المسجد وأن يجعلوا لكل منها بناء مستقلاً ولكن متلاصقان مع ترك الإدارة واحدة للمسجد والمدرسة وقد وجدوا أنّ من أعظم الوسائل لرفع منارة العلوم ونشر ألوية المعارف تأسيس خزانة الكتب في المدارس التي أنشؤوها، وصار الواحد منهم عندما يريد إنشاء مسجد يفكر مباشرة بتأسيس مدرسة تابعة له مع وضع نواة لإنشاء خزانة كتب صغيرة كانت أم كبيرة حسب حال منشئها إعساراً أو إيساراً ليستفيد منها الباحثون ويرجع إليها طالبو العلم وناهلو الثقافة والمعرفة، ولقد كان من جملة اعتناء السابقين بشؤون هذه الخزائن أنهم كانوا يسندون أمر الخزانة والإشراف عليها لأهل الفضل وذوي المعرفة والخبرة».
وعن دورة المكتبات في حياة أهل "حلب" يقول المؤرخ "كامل الغزي" 1853-1933 في كتابه /نهر الذهب في تاريخ "حلب"/ ما يلي: «معلوم أنّ النهضة العلمية في مدينة "حلب" بدأت في أيام "سيف الدولة الحمداني" ومن ذلك الوقت أخذت تكثر الكتب والأسفار العلمية في "حلب" على قدر الحاجة إليها إلى أن كانت دولة "نور الدين محمود بن زنكي" فازدادت النهضة العلمية وازداد عدد الكتب في "حلب" إلى أن جاءت دولة السلطان "صلاح الدين الأيوبي" ثم خلفه أولاده وأحفاده وأقرباؤه ومماليكه فاقتدوا به فكثرت المدارس ونمت تلك النهضة العظمى في العلوم والفنون حتى أصبحت "حلب" تعد في معارفها من أمهات الممالك الإسلامية».
وحول ولع الحلبيين في اقتناء الكتب وأسباب ذلك يقول: «إنّ ولع الحلبيين باقتناء الكتب كان ولم يزل غريزة فيهم فقد أدركنا الكثير من علماء "حلب" وأغنيائها من هو شديد العناية باقتناء الكتب المخطوطة النادرة حتى إنهم كانوا يتسابقون إلى اقتنائها ويبذلون الأموال الطائلة في استنساخها، ويعتني أهل اليسر من الحلبيين باقتناء الكتب وتحسين جلودها وعمل خزانات جميلة لحفظها لأسباب أهمها: أمل استفادة المقتني من بعضها الذي يكون موضوعه علماً بسيطاً كالتاريخ والأدبيات، ومنها ما جعل مكتبته زينة لبيته ومنها وهو أعظمها الاعتقاد السائد بين كثير من الناس حتى في غير "حلب" أنّ اقتناء الكتاب يورث الغنى، ومنها جعلها وسيلة احترام ووجاهة عند أهل العلم الذين يستعيرون منهم الكتب الفنية التي يحتاجونها وتقصر أيديهم عن شرائها».
أما عن تاريخ أهم المكتبات في "حلب" فيقول: «المكتبات المفقودة في "حلب" والتي كانت على جانب عظيم من الغنى هي مكتبة "بني الشحنة" ومكتبة "بني العديم" ومكتبة "بني الخشاب" وغيرهم من الأسر العلمية التي كانت تعد من أجلّ بيوتات العلم في "حلب" ومن تلك المكتبات أيضاً مكتبة "الجامع الكبير" ومكتبات المدارس الكبرى كالمدرسة "السلطانية" و"العصرونية" و"الحلوية" و"الرواحية" فإنّ جميع هذه المكتبات فُقدت برمتها في حادثة "تيمورلنك" /1400م/ فمنها ما استأثر بها "تيمورلنك" واتباعه ومنها ما نهبته العامة أثناء تلك الحادثة وطرحوه في زوايا بيوتهم ثم باعوه بأبخس ثمن».
وأخيراً يتحدث عن المكتبات الإسلامية الموجودة في "حلب" على أيامه /عاش "الغزي" بين 1853-1953/قائلاً: «المكتبة الأولى هي مكتبة "المدرسة الأحمدية" وكانت تجمع في خزانتها زهاء ثلاثة آلاف مجلد مخطوط في شتى العلوم ولقد لعبت أيدي الضياع في كثير من محتوياتها النفيسة ومع ذلك فقد بقي فيها عدد من الكتب النادرة مثل /التفسير المهمل/ للفيض الهندي و/در الحبب في تاريخ "حلب"/ لابن الخطيب الناصرية في مجلدين ضخمين و/تاريخ ابن كثير/ في ثلاثة مجلدات و/تاريخ الذهبي/ في سبعة مجلدات وهو ناقص و/مرآة الزمان/ منه مجلد واحد ومختصر تاريخ الذهبي المسمى /العيار ومثير الغرام لزيارة القدس والشام/، المكتبة الثانية هي مكتبة "المدرسة الرضائية" المعروفة بالعثمانية وتشتمل على نحو 1500 مجلد مخطوط في فنون شتى وأندر ما فيها كتاب /عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ/ للحلبي السمين و/المقدمة السنية/ للصفدي و/الدر الثمين في أسماء البنات والبنين/ و/الحدائق الأنسية في الحقائق الأندلسية/ وغير ذلك.
المكتبة الثالثة هي "مكتبة الجامع الكبير" المعروفة بمكتبة "محمود أفندي الجزار" وهو الذي وقفها وهي تشتمل على نحو 1000 مجلد مخطوط ومطبوع وأندر ما فيها كتب فلكية مخطوطة وآلات فلكية متنوعة كالربع المجيب والمقنطر وأنواع الاصطرلابات والكرات، المكتبة الرابعة هي "مكتبة الخسروية" وهي مجددة في هذه الأيام ولم تزل قيد الترتيب وستُجعل مكتبة عامة فقد نُقلت إليها مكتبة "الجامع الكبير".
ومن المكتبات الأهلية الغنية التي ضمت إلى خزائنها كل نادرة مكتبة الأديب الفاضل السيد "أسعد" الحلبي المولد والمنشأ نجل "ناجي أفندي العينتابي" المعروف بإمام زادة وتشتمل على زهاء ألفي مجلد بينها عدد كبير من نوادر الكتب المخطوطة والمطبوعة، ومن المكتبات الشهيرة مكتبة "التكية المولوية" وأكثر ما فيها من الكتبة المطبوعة».
وقبل أن نختم التقى موقع ealppo بصاحب إحدى المكتبات القديمة في "حلب" وهو الأستاذ "محمود ريحاوي" لنسأله عن وضع الكتاب ومهنة بيع الكتب اليوم في "حلب" فأجاب معرّفاً في البداية عن تاريخ مكتبته وموقعها: «مكتبتي اسمها "المكتبة الأدبية" وهي من أقدم المكتبات الموجودة في مدينة "حلب" وما زالت أبوابها مفتوحة أمام الزبائن، بناؤها هو جزء من "خان الصابون" الذي يعود إلى بداية القرن السادس الميلادي، أما بالنسبة للمكتبة فقد قام بإنشائها والدي وذلك في العام 1927 وقبل ذلك كان محلاً لبيع عدة الحلاقة وقد استلمت المكتبة من والدي منذ العام 1970 ومنذ ذلك اليوم أقوم ببيع الكتب فيها».
وعن دور المكتبات في حياة أهل "حلب" المعاصرين قال "ريحاوي": «في الحقيقة طرأ الكثير من التغيير بالنسبة لدور الكتب في حياة الناس وإقبالهم على شرائها فقديماً كان للمكتبات دور مركزي ومهم في حياة الحلبيين لأنها كانت /أي الكتب/ وسيلة التثقيف الرئيسية والوحيدة في المدينة ولكن في الوقت الحالي تراجع هذا الدور لمصلحة وسائل الإعلام الحديثة من تلفاز وانترنت وغيرها فقلّ الاهتمام بالكتب المطبوعة وبالتالي تراجع دور المكتبات بشكل عام عن السابق».
وبالنسبة لأكثر أنواع الكتب رواجاً وبالتالي بيعاً قال: «في كل عصر هناك نوع معين من الكتب التي يرغب بها الناس ويقبلون على شرائها واقتنائها ففي فترة الخمسينيات من القرن الماضي مثلاً كانت كتب القصص الشعبية مثل قصص "عنترة بن شداد" و"أبو زيد الهلالي" وغيرها مرغوببها بشكل كبير وهي قصص تتحدث عن الرجولة والشهامة والعشق العذري والشرف والإخلاص بينما شهدت فترة التسعينيات إقبالاً كبيراً على الكتب الجنسية والبوليسية، حالياً أكثر أنواع الكتب التي يقبل الناس على شرائها هي المقررات الجامعية والمراجع الشرعية الجامعية، والجدير ذكره أنّ الكتاب الديني والتراثي يبقى مرغوباً به في كل زمان».
وختم مقترحاً بالقول: «أصحاب المكتبات العامة هم مروّجون للثقافة والمعرفة ولذلك أرى أنه من واجب الجهات المختصة إعفائهم من الضرائب- وما أكثرها- وكذلك أن تعمد إلى تأسيس جمعية أو اتحاد لأصحاب مهنة بيع الكتب أسوة بباقي الحرف كي تكون لنا مرجعية إدارية نعمل في إطارها».
وأخيراً تحدث الدكتور "محمود مصري" عن أهمية "المكتبة الوقفية" بحلب وهو مديرها بالقول: «مساحة المكتبة 1500 متر وهي تتضمن أقسام رئيسية هي: الإدارة والديوان والأمانات والفهارس اليدوية والالكترونية وخزائن الكتب الثابتة التي تتسع لحوالي 70 ألف كتاب وخزائن الكتب المتحركة الخاصة بالدوريات والمجلات وثلاث قاعات للمطالعة وللباحثين وكبار الباحثين إضافة إلى صالة متعددة الأغراض تتسع لحوالي 140 شخصاً وهي مخصصة للمحاضرات والمؤتمرات والدورات التدريبية وورشات العمل والمعارض مع توفير الترجمة الفورية الى أربع لغات مع شاشة عرض وقسم المعلومات الذي يتضمن الانترنت المفتوح وخدمة المكتبة الالكترونية وخدمة قواعد البيانات».
وأضاف: «وهناك متحف خاص ضمن المكتبة لعرض المخطوطات واللقى الأثرية التي تم العثور عليها أثناء ترميم "الجامع الأموي" كالأدوات الفلكية والنحاسيات والفخاريات واللوحات القماشية الأثرية والخشبيات إلى جانب الزخارف الخشبية والتي استوحيت من المكتبة القديمة و"الجامع الأموي الكبير" مع الاعتماد على الخط العربي والعجمي في هذه الزخارف».
وختم بالحديث عن محتويات "المكتبة الوقفية": «تحتوي "المكتبة الوقفية" على أربعمئة مصحف مخطوط فضلاً عن وجود مصاحف مخطوطة مترجمة الى اللغتين الفارسية والتركية إضافة لأكثر من 10 آلاف كتاب مع سعي المكتبة لتزويدها بثلاثين ألف كتاب جديد من مختلف فروع العلوم الإسلامية والمعارف العامة إلى جانب تبرع ذوي علماء "حلب" الراحلين بمكتباتهم الخاصة».